العدد 1383 / 23-10-2019
أواب إبراهيم

خلال التظاهرات التي عمّت المناطق اللبنانية، تصدّرت مدينة طرابلس دون غيرها المشهد ، فتسيّدت الحراك الشعبي. بروز اسم المدينة هذه المرة لم يرتبط باكتشاف خليّة نائمة لتنظيم داعش، أو ضبط أسلحة في منزل أحد الطرابلسيّين، أو اندلاع جولة جديدة من الاشتباكات بين منطقتي باب التبانة وجبل محسن، إنما ارتبط بصورة مشرقة ناصعة راقية قدمها أبناء المدينة للحراك الشعبي، فباتت قبلة اللبنانيين ومعهم وسائل الإعلام، الذين شكلت طرابلس المحطة الأساسية في تغطياتهم المباشرة والمفتوحة.

ما ساهم في بروز المشهد الطرابلسي هو انزلاق بعض الساحات الأخرى لمستوى من السطحية والسفاهة والشتائم الغير مبررة، فتحوّلت بعض الساحات لما يشبه نواد ليلية في الهواء الطلق، فتمايلت الراقصات، ورُفعت لافتات بذيئة، وتردّدت ألفاظ مازالت الكثير من العوائل اللبنانية تحرص على حماية أبنائها من سماعها، فكيف بتردادها.

في حين كان المشهد في طرابلس مغايراً. فقد احتشد عشرات الآلاف في ساحة النور التي يتوسطها لفظ الجلالة، أتوا من مختلف المناطق من داخل المدينة وخارجها، من كل الأعمار، كثيرون منهم أتوا عوائل كاملة، أب وزوجة وأبناؤهم.لا سباب لا شتائم لا إساءات شخصية، منصّة إعلامية مركزية تقود الهتافات والأهازيج والأغاني الثورية، شاركت فيها فرقة كورال الفيحاء التي نالت جوائر عالمية، وكبار الفنانين والإعلاميين الذين قصدوا ساحة النور وأطلوا على أهلها الذين سمعوا عنهم صورة مغايرة. في المقابل، عشرات الآلاف في الساحة يهيّصون، يغنّون يتمايلون ويرددون الهتافات رافعين القبضات والأعلام اللبنانية دون غيرها.

الصورة المشرقة في عاصمة الشمال لاتقتصر على الاحتشاد والتظاهر كل يوم، بل تُستكمل خارجها بفريق من عشرات المتطوعين، أطلقوا على أنفسهم اسم "حراس المدينة"، جعلوا وظيفتهم حماية الساحة من تسلّل المندسين، واحتواء أي إشكال قد يقع فيها، عدا عن تنظيف الساحة والحفاظ عليها. كل ذلك يتمّ بالتنسيق مع الجيش والأجهزة الأمنية وبلدية طرابلس. كما تمّ تجهيز مستشفى ميداني في إحدى زوايا الساحة، لمعالجة من قد يصيبه عارض صحي من الإعياء والتعب. أما تأمين الطعام والشراب للمتظاهرين، فمطاعم المدينة ومتاجرها تتنافس في تقديم ما تستطيع كل يوم من وجبات غذائية، وسندويشات ومياه ومرطبات.

للصورة المشرقة التي قدمتها مدينة طرابلس للبنانيين والعالم جانب آخر أقل إشراقاً. فطرابلس مدينة محرومة موجوعة، تعيش شريحة واسعة من أهلها في فقر مدقع، وشريحة أخرى تعيش كفاف يومها، رغم أن أثرى أثرياء لبنان من أهل المدينة.

طرابلس المحرومة التي ينقطع فيها التيار الكهربائي 12 ساعة في اليوم، فيرتب أبناء المدينة تحركاتهم ومواعيدهم وزياراتهم وحياتهم تبعاً لموعد انقطاع التيار الكهربائي. طرابلس التي يطلق عليها أبناؤها اسم "أم الفقير" هي الوحيدة في لبنان التي يفطر أبناؤها على منقوشة زعتر بخمسمائة ليرة، أو كعكة بجبنة ساخنة بألف ليرة، أو صحن فول مع كبيس وزيتون ونعنع ورغيف خبز بألفي ليرة. طرابلس هي التي يكتفي الكثير من أبنائها عند الغداء بسندويش مغربية بألفي ليرة لسد جوعهم بقية النهار. طرابلس الوحيدة التي تتفاوت كلفة سيارة الأجرة بين 500 وألف ليرة حسب الجهة المقصودة، وما إذا كانت الطريق صعوداً أم نزولاً.

طرابلس المحرومة هذه، تباهى ذات يوم وزير الداخلية أنه اعتقل المئات من خيرة شبابها وعذّبهم لانتزاع اعترافات منهم دون أن يسمع صوتاً معترضاً على ما يفعل. طرابلس التي شهدت معارك عسكرية مدمرة بين الجيش اللبناني ومسلحي فتح الاسلام في مخيم نهر البارد المتاخم لها. طرابلس التي شهدت جريمة تفجير مسجدي التقوى والسلام، فسقط عشرات الشهداء من أبنائها، فيما القتلة معروفون تحميهم قوى نافذة.

التظاهرات الشعبية التي تشهدها ساحة النور، تقدم طرابلس للبنانيين والعالم، ثورة حلوة، جميلة، مثقفة، واعية. تقدم صورة ناصعة مشرقة ومشرّفة، أزاحت صورة قاتمة، رسمها البعض للمدينة وأهلها، ساهمت فيها وسائل الإعلام وبعض الطبقة السياسية.

أوّاب إبراهيم