العدد 1411 / 29-4-2020

في توقيت ملفت بدأت شوارع مدينة طرابلس بالغليان قبل بقية المناطق الأخرى. الأحداث التي شهدتها المدينة خلال الأيام الماضية حملت راية عودة الثورة الشعبية بعد غياب أشهر، وهي راية مقنعة ومقبولة في كل وقت وحين، خاصة في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتدهور سعر صرف الليرة لمستوى غير مسبوق. بشكل مريب انتشر عشرات الشبان في أحياء وأزقة المدينة وساحاتها، عاثوا فيها فساداً. اعتداءات تكسير أملاك خاصة وعامة، إحراق محال ومتاجر ومصارف وسيارات، إطلاق رصاص، رشق الجيش بالحجارة، رمي قنابل مولوتوف حارقة. شو القصة، ما الذي حرّك الشارع؟.

بعد 17 تشرين الأول الماضي شخصت الأنظار إلى طرابلس التي قدمت أداء راقياً وملتزماً ومحترماً للحراك الشعبي من خلال تجمع آلاف الطرابلسيين مساء كل يوم في ساحة النور، ورفع شعارات وهتافات وطنية جامعة، فنجحت المدينة بإزالة الكثير من التشويه الذي كان لحق بها. أسابيع قليلة مرّت، بدأت بعدها الاختراقات والاستغلالات. منصة الثورة في الساحة سيطر عليها أحد الأجهزة الأمنية وتحكّم بكل من يريد أن يعتليها أو يتحدث من خلالها. مجموعات من الشبان لا أحد يعرفهم يقطعون طريقاً، يُحرقون مصرفاً، يتجمعون تحت منزل نائب، يقفلون سوقاً. من هم، ماذا يريدون، من الذي يحرّكهم، من الذي يموّلهم، ما هي أهدافهم؟.. لا أحد يعرف.. هذا الواقع المؤسف جعل أبناء طرابلس الشرفاء ينفرون رويداً رويداً من ساحة النور والحراك الشعبي، وعادوا إلى منازلهم يعضّون فقرهم وبؤسهم بصمت بعد أن خاب أملهم بثورة اعتقدوا أن الفرج سيأتي من قِبلها.

من حيث التقسيم الإداري تعتبر مدينة طرابلس ثاني أهم مدينة بعد العاصمة بيروت، لكنها من حيث الواقع تقع في أسفل ترتيب المدن اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وأمنياً، لكنها في المقابل تتصدر الترتيب في نسبة الفقر والعوز والأوضاع المأساوية التي يعيشها أبناؤها. هذا الواقع المتردي للمدينة جعلها خاصرة رخوة قابلة للاستخدام والاستغلال، في ظلّ انعدام مناعتها ومناعة أبنائها وفقرهم وبؤسهم. فتجدها تربة خصبة للاختراق لكل من أراد ذلك. سواء كان فكراً إرهابياً أو حزباً أو متموّلاً أو جهازاً أمنياً أو مخابرات أجنبية. ترحب بكل من أراد اختراقها، واستخدامها كما يشاء. حتى الدولة اللبنانية استخدمت المدينة حين دعتها الحاجة. وقد سبق لها في أعقاب أحداث جرود الضنية عام 2000 أن قدمت شباب طرابلس قرباناً للإدارة الأميركية التي كانت بدأت حرباً على ما أطلقت عليه الإرهاب. فاعتقلت السلطات اللبنانية المئات من شباب المدينة دون تهم وعذبتهم في سجونها وسلبت سنوات عمرهم بدعوى مشاركة لبنان في مكافحة الإرهاب.

جولات المعارك بين باب التبانة وجبل محسن كانت ملفاً آخر لاستغلال المدينة. فكانت الاشتباكات صندوق بريد لتبادل الرسائل بين قوى السلطة دفع خلالها أبناء المدينة من دمائهم وتعطيل عجلة الحياة فيها، وحين انتفت الحاجة لهذا الصندوق تم اعتقال المشاركين في المعارك من شباب طرابلس وزجّ بهم في السجن ولم يقترب أحد من الجهة التي حرّضتهم ودعمتهم ودفعت لهم المال وأمّنت لهم السلاح.

مشكلة مدينة طرابلس أنها فارغة، لاسند لها ولاظهير، لايوجد زعيم أو حزب أو جهة تحمل همّها وتدافع عن أبنائها. أبناؤها يعيشون على الفطرة والبساطة والطيبة، إضافة للفقر والتعتير والعوز والبطالة. يضحك عليهم هذا الزعيم أو ذاك، يوزّع عليهم فتات أمواله، يمنّ عليهم بجولة انتخابية يعدهم فيها بالمنّ والسلوى وجنات النعيم فيصبّون أصواتهم للوائحه. تنتهي الانتخابات فلا يعودون يرون وجهه إلا على الجدران وفي وسائل الإعلام.

المواجهات التي شهدتها طرابلس خلال الأيام الماضية وسقوط شهيد من أبناء المدينة برصاص الجيش اللبناني يعيد إلى الواجهة علاقة الدولة بهذه المدينة. علاقة لم تكن يوماً طبيعية رغم كل ادعاء آخر. فالطرابلسيون لم يجدوا من الدولة سوى اعتقالات وظلم وتشويه إعلامي ورصاص، علاوة على البنى التحتية المهترئة والخدمات المعدومة والمشاريع المعطّلة دونما بقية المناطق الأخرى، في وقت لم تبذل هذه الدولة أي جهد لتحسين هذه الصورة بل عملت على تعزيزها وتعميقها. طرابلس ستبقى خاصرة رخوة وعرضة للاختراق والاستغلال والاستخدام طالما أن الدولة لم توقف مسلسل تخلّيها عن المدينة.

أوّاب إبراهيم