العدد 1401 / 19-2-2020

قبل أسابيع سُئل وزير الخارجية جبران باسيل خلال مقابلة صحفية على هامش مشاركته في منتدى دافوس الاقتصادي عن كيفية وصوله للمنتدى بطائرة خاصة في الوقت الذي لايتعدى راتبه الشهري 5000 دولار. أجاب باسيل أنّ صديقاً له قدّم له طائرته الخاصة ليستخدمها. هذه الحادثة تفاعلت بشكل كبير في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت مناسبة للسخرية من الوزير وحزبه وتشكيكاً به واتهامه بالفساد. في اليوم التالي تحوّلت الحادثة إلى مادّة قديمة وتراجع الاهتمام بها بشكل كبير، ليختفي هذا الاهتمام تماماً بعد أيام قليلة من حصولها وانتقلت إلى الأرشيف.

عاد باسيل إلى لبنان، وتابع إطلاق مواقفه المطالبة بمحاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة، ومعاقبة السارقين. لم يسأله أحد عن قضية الطائرة الخاصة، ولم يراجعه أحد. لا عمّه رئيس الجمهورية سأله ولا رئيس مجلس الوزراء استوضح منه، ولم يستدعيه النائب العام المالي ليتأكد من هذه القضية التي يمكن أن تخفي وراءها شبهات فساد. فمن هو الصديق الذي قدم طائرته الخاصة لباسيل لاستخدامها، وما المقابل الذي حصل عليه.. أسئلة مشروعة لا تعني الاتهام، لكنها تتطلب المراجعة والتدقيق من الشعب اللبناني ومعه وسائل الإعلام وقبلهما الأجهزة الرقابية والقضائية في السلطة، فإما يتبين أن ما حصل كان مشروعاً وقانونياً، وإما أنه يمس بنزاهة باسيل ويكشف ملف فساد متعلق به.

في الأسبوع الماضي انتشرت صورة لأحد ضباط الحرس الجمهوري وهو يحمل أمتعة لجبران باسيل خلال تسوّقه من أحد المحال الراقية في سويسرا. تندّر اللبنانيون حول الحادثة لكن أحداً لم يحاسب ولم يراجع. حتى أن المؤسسة العسكرية التي يتبع لها الضابط لم تجد نفسها معنية بالتوضيح. أمر مشابه حصل قبل أشهر عندما نظم التيار الوطني الحر احتفالاً في بعبدا، ظهر باسيل ومن حوله ضباط من الحرس الجمهوري يحرسونه رغم عدم وجود صفة له مرتبطة بالقصر الرئاسي سوى أن الرئيس عمّه. لم يوضح أحد، لم يفسر أحد، لم يشرح أحد، مرّ الأمر كما سبقه.

اختيار الحوادث أعلاه ليس تعمّداً لاستهداف باسيل، بل لأن ما حصل كان نافراً وملفتاً ونال ما يستحقه من انتقاد، لكنه كغيره من عشرات القضايا المشابهة لم تتم متابعتها والتدقيق بها، لا من اللبنانيين ولا من وسائل الإعلام ولا من الأجهزة المعنية الرقابية والقضائية في السلطة. كل فترة تحصل أمور تصل للإعلام، يسخر منها ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي، تتقاعس السلطة عن القيام بواجبها في المتابعة، وتذهب للنسيان، بعدما تغطي عليها قضية مثيرة أخرى، وهكذا..

معظم الطبقة السياسية تلاحقها شبهات واتهامات وإشارات مريبة.. بعضهم "جسمه لبّيس" أكثر من غيره، لكن تبقى مجرد اتهامات وشبهات دون إدانة. كلما جاء ذكر رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة تعلو أصوات تتهمه بسرقة 11 مليار دولار من خزينة الدولة. قبل أسابيع مثُل السنيورة أمام النائب العام المالي وقدّم ما لديه من معطيات. خرج السنيورة ولم يعلن النائب العام النتيجة، وتتواصل اتهامات السنيورة بالسرقة.

تتواتر الكثير من الخبريات والحكايا حول تورّط رئيس مجلس النواب وزوجته وأبنائه ومن حوله بقضايا فساد. لكن لا أحد استدعى أحداً منهم، ولم يقدم أحداً دليلاً على حقيقة هذه الاتهامات، التي تستمر وتتواصل.

أصدر رئيس الجمهورية قبل فترة عفواً خاصاً عن متهمة بالاتجار بالمخدرات. مرّ الخبر سريعاً ولم يعرف به كثيرون، ولم يراجع أحد الرئاسة بالأمر، فالعفو حق من صلاحية الرئيس، وبات السؤال حول الأمر مساساً بصلاحيات الرئاسة التي يعتبرها البعض خطاً أحمر. لكن كيف يستقيم أن يصرّح الرئيس كل يوم أن المرتكب يجب أن يعاقب ويدعو القضاء لممارسة صلاحياته، ثم بعد ذلك يمارس الرئيس صلاحيات تنقض حكماً قضائياً مبرماً للعفو عن تاجرة مخدرات؟ لا إجابة.

في بداية ولاية رئيس الجمهورية صدر مرسوم بتجنيس مئات الأشخاص، معظمهم من رجال أعمال وأثرياء، في مقابل آلاف الأشخاص الذين يستحقون الجنسية لكنهم لم ينالوها. لم يسأل أحد عن خلفية اختيار الأشخاص لمنحهم الجنسية، أو المصلحة من ورائهم، أو هل هناك شبهة فساد رافقت إصدار المرسوم؟ لا أحد سأل، لا أحد استفسر، لا أحد ما زال يتذكر.

كل يوم تكشف وسائل الإعلام عن فضائح وملفات فساد واتهامات تلاحق رؤساء ووزراء ونواب وسياسيين ورجال أعمال وحزبيين. يتسلى اللبنانيون بهذه الأخبار، ثم تُطوى للنسيان، لا أحد يتأكد من صحتها، ولا الدولة تراجع أصحابها.

إذا استمرت ذاكرة اللبنانيين ووسائل الإعلام والأجهزة الرقابية في الدولة قصيرة بهذا الشكل، فلا أمل بالتغيير، لا ثورة ولا بانتخابات ولا بأي شكل آخر.

أوّاب إبراهيم