أواب إبراهيم

منذ إقرار سلسلة الرتب والرواتب في المجلس النيابي، أعلن قضاة لبنان اعتكافهم وامتناعهم عن النظر في القضايا المعروضة أمامهم، احتجاجاً على ما يعتبرونه إجحافاً أصابهم في السلسلة. احتجاجات القضاة تتلخص في اقتطاع ضريبة من صندوق تعاضد القضاة الذي يؤمن طبابة وتعليم عوائلهم في أرقى المستشفيات وأهم الجامعات، وتقصير مدة العطلة القضائية التي كانت شهرين إلى شهر واحد. علماً أن العطلة الأسبوعية لمعظم اللبنانيين تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع. أما المطلب الأهم بالنسبة للقضاة فهو أن رواتبهم طبقاً للسلسلة باتت متقاربة مع رواتب موظفي الإدارات العامة، وهذا أمر لايقبلون به ولايرضونه، فراتب القاضي يجب أن يكون محلّقاً في السماء بعيداً عن رواتب بقية عباد الله.
رفاهية القاضي أمر مطلوب. فالقضاة ينظرون في شؤون العباد، فيحكمون بسجن المذنب وتغريم المسيء والعفو عن البريء. فكيف لقاض أن يحكم بالعدل بين المتقاضين وهو منشغل في إيجاد مصدر رزق يتيح له تسجيل ابنه في الجامعة، أو علاج زوجته في المستشفى، أو حتى قضاء العطلة الصيفية في المنتج الفلاني. هذه الرفاهية هي التي يفترض أن تؤمن استقلال القضاء. 
احفظوا ما قلته أعلاه ولننتقل إلى موضوع آخر، وهو الصفقة التي أبرمها حزب الله مع جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً). إحدى مراحل الصفقة هي إطلاق جبهة فتح الشام أسرى لحزب الله، مقابل إطلاق السلطات اللبنانية ثلاثة موقوفين في السجون اللبنانية متهمين بالانتماء إلى منظمات إرهابية (الوصف القانوني لتنظيم القاعدة وداعش). لست في وارد انتقاد ما قام به حزب الله من توريط الجيش اللبناني في معركة جرود عرسال دون أي يكون للمؤسسة العسكرية رأي بذلك، فإذا كانت قيادة الجيش ترضى أن يتم إحراجها وفرض معارك عليها فهذا شأنها. كما أنني لست معنياً باستجابة الحكومة اللبنانية لفتح خط اتصال رسمي مع النظام السوري لإتمام بنود الصفقة، وهو ما كانت ترفضه سابقاً. ما أود أن أتوقف عنده هو إطلاق سراح ثلاثة موقوفين من السجون ليكونوا جزءاً من صفقة لم تبرمها الدولة اللبنانية، بل أبرمها حزب الله.
المعروف هو أن كل متّهم موجود في السجن، صدرت بحقه مذكرة توقيف بسبب اتهامه بأفعال يجرّمها القانون. هذه المذكرة لاتصدر عن مسؤول، ولا عن وزير أو نائب، بل عن قاض. وهذا يعني أن الموقوفين الثلاثة الذين تمّ إطلاق سراحهم صدرت بحقهم مذكرات توقيف قضائية، اقتضت الإبقاء عليهم في السجن، فكيف يتم إطلاق سراحهم؟ هل صدرت مذكرة إخلاء سبيل عن قاض ولم يتم الإعلان عنها؟ وإذا كان هذا ما حصل فكيف يخضع قاض مستقل ونزيه لرغبة حزب يبرم صفقة مع جماعة يفترض أنها إرهابية، لإطلاق سراح موقوفين يعتبرهم إرهابيّين؟!. وإذا كان الموقوفون المُخلى سبيلهم لم يصدر بحقهم قرار بإخلاء سبيلهم، فكيف يخرجون من السجن إذاً؟!
ليس سراً أن التدخلات السياسية تضرب بنية القضاء حتى النخاع. فالقرارات القضائية وإخلاءات السبيل غبّ طلب الطبقة السياسية، وهذا أمر لم يعد سراً. وظيفة بعض القضاة تطويع القانون كيف يشاء الزعيم، يتشددون حين يُطلب منهم ذلك، ويتساهلون حين يُغمز إليهم، لكنها المرة الأولى التي يشهد فيها اللبنانيون تدخلاً مكشوفاً وفجاً في عمل القضاء بهذا الشكل. ففي كل الحالات التي شهد اللبنانيون خلالها تدخلات سياسية في عمل القضاء، كان يتم ابتكار فذلكة قانونية –وإن كانت غير مقنعة- لكن يتم تقديمها لتبرير هذا التدخل. اليوم، ما هي هذه الفذلكة التي تبرّر إطلاق سراح ثلاثة موقوفين تعتبرهم السلطات اللبنانية إرهابيين كرمى لعيون حزب يبرم صفقة مع من يعتبرهم إرهابيين؟!
نعود إلى استقلال القضاء الذي يقول القضاة إنهم معتكفون حرصاً عليه. الاستقلال لايكون فقط في تأمين مستوى معيشي راق، ولايكون في التعطيل شهرين في السنة، إنما يكون في إرادة صلبة وحقيقية بالاستقلال عن السلطة السياسية وعدم الخضوع لرغباتها، حينها سيقف جميع اللبنانيين إلى جانب القضاة في اعتكافهم لحماية هذا الاستقلال والتمسك به.>