اواب ابراهيم

أخفق العهد الجديد والحكومة العتيدة المرافقة له في تقديم برهان بأن شيئاً قد تغيّر في لبنان. على العكس، فقد فاحت في الآونة الأخيرة روائح كريهة من بعض ملفات الفساد، والخطاب الطائفي البغيض بات يتردد على بعض الألسنة دون من يستنكر أو يرفض.
وإذا ما تجاوزنا موضوع قانون الانتخاب، الذي من الواضح أن الطبقة السياسية ما زالت تخفض النار تحته، ولم تشعر بحاجة لتقويتها رغم أن المهل الدستورية لإقرار القانون الانتخابي الجديد انتهت أو قاربت على النهاية، فإن سلسلة الرتب والرواتب هي عنوان المرحلة هذه الأيام. ورغم الإيحاء الذي يشير إلى أن إقرار السلسلة وصل إلى خواتيمه السعيدة، وربما تكون أقرّت قبل وصول «الأمان» إلى قرائها، فإن البعض يشير إلى أن الفرصة ما زالت متاحة أمام الشيطان ليتسلل بين تفاصيلها ويعرقل إقرارها، ولتكون هذه العرقلة صفعة جديدة للعهد.
 لست خبيراً اقتصادياً لأصدر أحكامي وأوزّع آرائي، لكن مارشح من أرقام سلسلة الرتب والرواتب والموازنة التي يفترض أن تتضمن تمويلاً لها، يشير إلى أن الحكومة انتهجت أخيراً سياسة ضريبية تطال الجهات والمؤسسات المليئة، والحرص على عدم تحميل الطبقة المتوسطة والفقيرة أعباء جديدة تثقل كاهلهم وتضيّق الخناق حول رقابهم. إلا أن النقاشات التي رافقت أرقام السلسلة كشفت أن رجال الدولة العميقة في لبنان الذين يتحكمون بالمفاصل الأساسية وبمصير اللبنانيين ليسوا زعماء الطوائف كما يعتقد البعض، ولا الزعماء السياسيين الذين يظهرون على شاشات التلفزة كل يوم، إنما هي منظومة متكاملة ومعقّدة عابرة للطوائف والخلافات السياسية، تجمعها المصلحة والتكسّب والإثراء على حساب المواطن وخزينة الدولة، ولو أدى ذلك لإفلاس الدولة وإفقار المواطن. هذه المنظومة يظهر على سطحها رجال أعمال ووكلاء وكالات حصرية ومدراء مصارف وهيئات اقتصادية ومحتلون لأملاك بحرية ومشاعات وعقارات مملوكة للدولة، هم أصحاب ربطات عنق برّاقة ويرتدون ساعات غالية الثمن. هذه المنظومة ملمسها ناعم كالحيّة، لكن لسعتها مميتة، ولا تخرج سمّها إلا حين يتم الاقتراب من مصالحها والمساس بمكتسباتها، الأمر الذي يبدو أن سلسلة الرتب والرواتب التي يتم الحديث عنها قد فعلته. ولعلّ الاعتكاف غير المسبوق الذي قام به قضاة المحاكم وتضامن معهم قضاة الشرع والمحامون والتلويح باستقالة القضاة، مؤشر على أن المواجهة الخفية التي ستواجه السلسلة من الدولة العميقة الموزّعة على السلطات والمنتمية لمختلف الأطياف السياسية ستكون عنيفة.
الطريف في الموازنة العامة أن الوباء الطائفي تسلل إلى ضرائبها، فتم التراجع عن فرض رسوم جديدة على السجائر بداعي أن هذه الرسوم ستساهم في تشجيع التهريب، في حين أن الجميع يدرك أن تصنيع التبغ والتنباك في لبنان بات وكالة حصرية للطائفة الشيعية الكريمة، وسبق للرئيس نبيه بري أن اعتبر شتلة التبغ التي تصيب العباد بسرطان الرئة عنواناً للمقاومة. ولأن الموازنة تضمنت رفعاً للرسوم على المشروبات الكحولية، فقد اعتبر حزب الكتائب أن هذه الرسوم ذات طابع طائفي على اعتبار أن المسيحيين هم الذين يستهلكون المشروبات الكحولية(!!).
بعيداً من أرقام الموازنة والسلسلة المرافقة لها، ورغم التوجه الجديد بمحاولة إعفاء الطبقة المتوسطة والفقيرة من أعباء تمويل النفقات المتزايدة، فمن المؤسف القول إن الدولة اللبنانية ما زالت على عهدها في البحث عن موارد جديدة دون بذل أدنى جهد في مواجهة الفساد والنهب والسرقة، الذي ينخر السلطة والإدارة والبنية الاقتصادية، كأنها بذلك تتجنب الاقتراب من وكر الدبابير خوفاً من لسعاته. ولعلّ البرنامج الاستقصائي الذي بثته إحدى شاشات التلفزة قبل أيام مؤشر واضح على غياب أي نية للتغيير في نهج دفن الرأس في الرمال. فالبرنامج كشف تهرّب عدد من الرؤساء والنواب وأبنائهم وعدد من الفنانين وكبار التجار من تسجيل سياراتهم الفاخرة ودفع الرسوم المتوجبة عليها في التفاف واضح على القانون، حارماً خزينة الدولة مئات آلاف الدولارات، وضلوع أحد رؤساء الأجهزة الأمنية بالسرقة. إلا أن الفضيحة هي أن أحداً من الرؤساء لم يعبأ بما حصل، وتظاهر الجميع بانشغالهم وعدم معرفتهم، ما يبشر بأن نهج الفساد باق ويتمدد، وأن الوضع في البلد «تيتي تيتي.. متل ما رحتي متل ما جيتي».