العدد 1389 / 4-12-2019

منذ الأيام الأولى لبدء التظاهرات الشعبية في الشارع وقطع الطرقات، حذرت أحزاب السلطة من استغلال قوى وأطراف أخرى لهذا الحراك، واستغلاله لتحقيق مصالحها ومآربها التي لاعلاقة لها بأهداف ومصالح الغاضبين والثائرين والمخلصين والشرفاء والفقراء والموجوعين. هذا الاتهام عبّد الطريق لأحزاب السلطة كي توعز لبلطجيتها وزعرانها ومناصريها للاعتداء على المتظاهرين والإساءة إليهم وإحراق خيمهم، بذريعة أن المتظاهرين متآمرون مندسون يستغلون أوجاع الناس لتحقيق مصالحهم.

حتماً ويقيناً هناك أطراف "ركبت موجة" التظاهرات الغاضبة في الشارع وتسعى لتحقيق مصالحها. قد تكون أطراف داخلية متضررة من السلطة القائمة وتريد قلب الطاولة إيجاد مكان لها حولها، وقد تكون أطراف خارجية تنفذ أجندات تتعلق بها، لكن حتماً ويقيناً أن ركوب موجة التظاهرات الشعبية ليست اختراعاً لبنانياً، فمن المعروف أن كل حراك في الشارع قد تستفيد منه أطراف أخرى لزيادة مكاسبها التي لا علاقة لها بالمطالب الشعبية.

ألم يستفد تيار المستقبل من التظاهرات الشعبية الغاضبة من جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 لتحقيق انتصار ساحق في الانتخابات النيابية التي جرت بعد الجريمة بأشهر، وحقق سعد الحريري مع حلفائه أغلبية نيابية واضحة، وشكل حكومة يملك فيها القرار منفرداً؟ ألم يستفد التيار الوطني الحر من التظاهرات الحاشدة في 14 آذار 2005 والتي أدت لانسحاب الجيش السوري من لبنان، وتمهيد الطريق لعودة رئيس التيار العماد ميشال عون بعد قرابة خمسة عشر عاماً من النفي؟ ألم تستفد القوات اللبنانية من الجو الشعبي الضاغط والمؤيد للإفراج عن قائدها سمير جعجع لإقرار مجلس النواب عفو عام رغم الحكم القضائي المبرم بإدانته؟. كلها محطات استفادت منها قوى وأحزاب وشخصيات من جو شعبي ضاغط ساهم في تحقيق أمور لم تكن لتتحقق لولا هذا الجو، وهو الأمر نفسه الذي يمكن أن يكون حاصلاً الآن.

فمن المنطقي أن تسعى القوات اللبنانية اليوم لاستغلال التظاهرات الشعبية للإطاحة بالمنظومة السياسية القائمة والتي عملت على إبعادها وتهميشها وإقصائها، رغم الحصة الكبيرة التي حققتها في الانتخابات النيابية الأخيرة. ومن المنطقي أن يسعى سعد الحريري -رغم أنه كان يشغل رأس السلطة التنفيذية- لاستغلال الحراك الشعبي لتحرير نفسه من التسوية الرئاسية والقيود التي تكبّله وجعلته الطرف الأضعف في حكومة يرأسها. ومن الطبيعي أن يسعى أحد المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية لاستخدام كل ما يمتلك من أدوات لتأجيج الشارع وتجييشه وتوجيهه للإطاحة بمرشح يسابقه للوصول إلى قصر بعبدا. ومن المنطقي أيضاً أن تكون هناك جهات خارجية استغلّت التظاهرات في الشارع فدعمت هذا الحراك للتضييق على من تعتبرهم أعداؤها. كل هذا قد يكون صحيحاً وهو منطقي وطبيعي ويحصل في كل دول العالم، لكنه لايبرر مطلقاً شمول المتظاهرين بتهم والتشكيك بنواياهم وتخوينهم والاعتداء عليهم وإعلان الحرب المقدسة عليهم لتشتيتهم.

فالتظاهرات بدأها المواطن المسكين المقهور الفقير، الذي استاء من الأزمات الكثيرة والمتلاحقة التي يعاني منها، وبسبب المكابرة والغباء الذي اتسم به أداء السلطة من لامبالاة تجاه هذه الأزمات، واستمرارها في مسارها الانحداري الذي زاد في حدة الأزمة واستفحالها، وبسبب انكشاف عشرات ملفات الفساد الضالع فيها كثير من هم في السلطة دون أن تتحرك أي جهة رقابية لمحاسبة الفاعلين، وبسبب تحيّز السلطة القضائية وعدم استقلالها التي تختار ما تشاء فتترك ما تشاء وتدّعي على من تشاء خدمة لمآرب الجهات التي تواليها، وبسبب الظلم الكبير الذي لحق بشريحة واسعة من اللبنانيين جراء هواجس طائفية بغيضة تلازم بعض من هم داخل السلطة، وبسبب خطاب عنصري ومذهبي استفزازي ونكئ لجراح الحرب انتهجه بعض من في السلطة. لكل هذه الأسباب وغيرها نزل اللبنانيون إلى الشارع. أما من "ركب الموجة" فمشكلة السلطة معه لا مع المواطن الموجوع والمقهور.

أوّاب إبراهيم