اواب ابراهيم

أكتب إليكِ بكلماتي هذه رغم المخاطرة الكبيرة، فإذا رآني شاويش الزنزانة سيكون عقابي ساعات من التعذيب والصعق الكهربائي، لكنني وجدت أن الأمر يستحق المحاولة، فالألم لم يعد ضيفاً ثقيلاً وهو رفيقي الدائم منذ دخلت سجن صيدنايا. ربما لايجب أن أخبرك بحالي كي لايزيد حزنك علي، لكنني حين أدركت أن كلماتي ستبقى حبيسة جدران الزنزانة العفنة قرّرت أن أبثّ إليك ألمي وبعضاً من يومياتي، علّ ذلك يخفف مما أعانيه.
وأنا أحدثك يا أمي لمحت ملَك الموت مرّ قربي ليخطف روح زميل لي نهشه مرض السل، بعدما رفضت إدارة السجن إعطاءه الأدوية. وبعد أن أنتهي من محادثتك سأتعاون مع زملائي لنقل الجثة، بانتظار قدوم حراس السجن لأخذها. بالمناسبة، في إحدى المرات انشغل ملك الموت عن زنزانتي ثلاثة أيام فلم يمت أحد منّا، فاستاء السجانون ودخلوا إلى الزنزانة وبدأوا فينا ضرباً وركلاً وصفعاً، وكان ذلك كفيلاً بأن يعاود ملك الموت زيارتنا، ويخطف من بيننا ستة عشر زميلاً في ليلة واحدة.
هل تعلمين يا أمي أن الكلام ممنوع في السجن طيلة الوقت؟ حتى الأنين من شدة الألم ممنوع. الصمت في السجن مطبق، هو نوع من الصمت الذي لا يمكن استيعابه، وإذا تحلّى أحدنا بالشجاعة فقد يجازف بهمسة أنين تستجلب عليه المزيد من الضرب، وقد حدث أن أحد السجناء توسل قائلًا «منشان الله» فهاجمه اثنان من الحراس، وانهالا عليه ضرباً.
الرعاية الطبية عندنا يا أمي خمسة نجوم، فالأطباء الذين يأتون إلينا يقومون بتعذيبنا بدلًا من مساعدتنا. بعدما أدركنا ذلك، توقفنا عن إخبار الأطباء عن مكان الألم لأننا كنا نعرف أنهم سوف يضربوننا على مكان الألم تحديداً. 
أًصبت بالإسهال ذات مرة، ولم أعد قادراً على تحمّل الأمر، في هذه اللحظة دخل الحراس إلى الزنزانة، وهُرع الجميع باتجاه الجدار. فرفعت سروالي ووضعت يديّ على عينيّ وكنت أرتعد، فسألني الحارس لماذا ترتعد، فقلت له إنني كنت في دورة المياه، فركلني وانهال عليّ باللكمات والركلات مستهدفاً عظام قدمي لسبب أجهله. كان الضرب مبرحاً، وأشبه ما يكون بمن يحاول غرس مسمار في صخرة، تمنيت حينها لو أنهم بتروا ساقيّ بدلاً من الاستمرار في ضربهما.
سأخبرك أمراً يا أمي أخجل من مجرد التفكير به فكيف بإخبارك عنه. اعتاد الحراس أن يأمروا الجميع بخلع ملابسهم والتوجه إلى دورة المياه واحداً تلو الآخر، ثم يختارون واحداً منا من ذوي البنية الصغيرة، أو من هم أحدث سناً، أو من لديهم بشرة فاتحة، ويطلبون منه أن يقف ووجهه نحو الباب، وأن يغمض عينيه، ومن ثم يأمرون أحد السجناء الأكبر سناً باغتصابه. 
أمي الغالية، خضعت قبل أيام لمحاكمة أمام مجموعة من الضباط في محكمة الميدان العسكرية، استغرقت محاكمتي دقيقة ونصفاً، تضمنت سؤالي عن اسمي والجرم الذي اعترفت بارتكابه تحت التعذيب، ليطلب مني الكاتب بعدها التوقيع على إفادتي. دقيقة ونصف يا أمي كانت كافية ليصدر الحكم عليّ بالسجن المؤبد. هو حكم مخفف، فالقاضي لايعرف إلا حكمين، إما المؤبد وإما الإعدام. حال القاضي كحال أطباء مستشفى تشرين الذي تُنقل إليه جثث من يتم إعدامهم، فتشخيص الأطباء لأسباب الوفاة لايخرج عن اثنين: إما توقف عمل القلب وإما توقف الجهاز التنفسي. الأطباء هناك لاينتبهون لألوان قوس قزح على أجسادنا ولا لآثار الصعق الكهربائي ولا للعظام الناتئة من جلودنا جراء منع الطعام والشراب.
أخبرك عن حالي، لكن حال آخرين كثر ليس أفضل مني. فكل اثنين وأربعاء يدخل الحراس إلى الزنزانة ويختارون من بيننا، يجمعون قرابة خمسين سجيناً يمشون في طابور مطأطئي الرؤوس، يمسك كل واحد منهم بقميص الشخص الذي أمامه. يخبرونهم أنه سيتم نقلهم لسجن مدني، لكننا علمنا أن من يتم نقله ينتقل إلى دار البقاء بعد شنقه في المبنى المجاور.
ملاحظة: أحداث الرسالة أعلاه ليست من وحي الخيال، وتمتّ إلى الواقع بصلة كبيرة، وهي استندت في تفاصيلها لشهادات أوردها تقرير منظمة العفو الدولية الذي أصدرته بعنوان «مسلخ صيدنايا».