العدد 1562 /10-5-2023
أواب ابراهيم

خسر الجسم القضائي في لبنان قاضية من القلّة الباقية من القضاة الذين يتحلّون بالنزاهة وامتلكوا الجرأة على فتح ملفات الفساد المحرمة، والتي تورط فيها كبار المسؤولين في الدولة اللبنانية. فقط أصدر المجلس التأديبي قراراً قضى بفصل القاضية غادة عون من سلك القضاء، بناء على شكاوى قدمها رئيس وزراء ووزراء ونواب وحاكم مصرف لبنان ومدراء مصارف. غادة عون العجوز ذات الشعر المنكوش، التي تعرج على قدمها، منذ عيّنها رئيس الجمهورية ميشال عون مدعياً عاماً استئنافياً في جبل لبنان كان معروفاً أنها من حصة الرئيس، وأنها ستكون الأداة القضائية التي يبطش بها عون خصومه في السياسة.

وبالفعل، لم تكذّب غادة عون خبراً، فمند تولّت منصبها كمدّع عام كانت مجمل قراراتها وأحكامها القضائية تنسجم مع توجّه رئيس الجمهورية وفريقه السياسي. وبناء على هذا الأداء المنحاز، واجهت عون منذ بدأت عملها في "نبش" ملفات الفساد، انتقادات شرسة واتهامات بشعة وشتائم واستهزاء بشكلها وأدائها "السوقي"، علماً أنها لم تنف يوماً قربها من رئيس الجمهورية.

المنطق الطبيعي يقول بأن يخاصم غادة عون ويعلن الحرب عليها هم المتورطون بملفات الفساد التي "نكشتها" لهم ولاحقتهم بها. لكن ما هو غير طبيعي ولا منطقي ولا مفهوم، هو أن ينضم لحملة الشماتة والاستهزاء بطرد غادة عون من سلك القضاء شريحة واسعة من اللبنانيين، أعمتها الدعاية السوداء التي روّجها المتضررون من وجود غادة عون في القضاء.

من الاتهامات التي وجّهت لغادة عون بأنها لم "تنبش" أي ملف فساد يتعلق برئيس الجمهورية أو فريقه السياسي، رغم إدراك الجميع أن لهذا الفريق العديد من الملفات التي تفوح منها رائحة الفساد، وقد يكون هذا الاتهام صحيحاً. لكن هل هذا مبرر لرفض كل التحقيقات التي قامت بها في ملفات فساد أخرى؟!. ألا يوجد إلا غادة عون في سلك القضاء حتى تنبش ملفات فساد المنظومة الحاكمة. كما أسلفنا، فإن تعيين غادة عون كان من حصة رئيس الجمهورية، ومن المعروف أن لكل مرجعية سياسية حصتها في سلك القضاء كما في كل إدارات الدولة الأخرى. فكما أن غادة عون من حصة رئيس الجمهورية، هناك قضاة آخرون من حصة مرجعيات سياسية أخرى تناصب رئيس الجمهورية وفريقه السياسي العداء، فلماذا لم يتجرأ أيّ من هؤلاء القضاة على فتح ملفات الفساد الخاصة بهذا الفريق. هل المطلوب من غادة عون حتى يرضى عنها القوم أن تفتح بنفسها ملفات فساد المتعلقة بفريق رئيس الجمهورية، في الوقت الذي يلتزم فيه بقية القضاة المحسوبين على الآخرين الصمت، ولم يمتلكوا الجرأة على فتح ملف فساد واحد يخص رئيس الجمهورية أو فريقه السياسي. فلو كان في كل فريق سياسي قاض مثل غادة عون يجرؤ على فتح ملفات الفريق السياسي الآخر لما بقي فساد في هذا البلد.

ثم هل ملفات الفساد التي فتحتها غادة عون يستفيد منها فريقها السياسي أم جميع اللبنانيين، ألا يستفيد اللبنانيون من فتح ملف حاكم مصرف لبنان وشقيقه وعدد من مدراء المصارف لمسؤوليتهم عن الانهيار الاقتصادي، ألا يستفيد اللبنانيون من فتح ملف الفساد والسرقات في النافعة، ألا يستفيد اللبنانيون من ملف الفيول المغشوش في وقت يعيش اللبنانيون في العتمة، ألا يستفيد اللبنانيون من اتهام السياسيين من أصحاب المليارات بالإثراء غير المشروع بعدما أخذوا قروضاً ميسرة من بنك الإسكان وحرموا مئات اللبنانيين الفقراء من الاستفادة من هذه القروض، ألا يستفيد اللبنانيون من فتح ملف إحدى أكبر شركات تحويل الأموال التي قامت بتهريب المليارات خارج لبنان في وقت كان اللبنانيون محرومون من سحب دولار واحد. هل هذه الملفات تخص رئيس الجمهورية وفريقه السياسي، أم تخص اللبنانيين جميعهم.

المؤسف أن الكثير من اللبنانيين يرددون ما يسمعونه دون أن يعوا مصلحتهم فيه.

أوّاب إبراهيم