العدد 1444 /6-1-2021

في المرة الأولى كنت أقود دراجتي النارية واثق الخطى أمشي ملكاً في منطقة كورنيش المزرعة ببيروت، مدركاً أنني ملتزم بجميع القوانين المتعلقة بالدراجات، من اعتمار الخوذة، إلى صيانة مصابيح الدراجة ودفع الميكانيك الدراجة وحيازة دفتر سواقة خاص. لمحت من بعيد حاجزاً نصبته قوى الأمن الداخلي لحجز الدراجات المخالفة. شعرت بالسعادة في داخلي لأنني لن أكون من ضمن من سيتم احتجاز دراجتهم. لمحني أحد عناصر الدورية من بعيد وأشار بيده أن أتوقف، وكان بإمكاني تجاهله ومتابعة طريقي ولن يستطيع اللحاق بي، لكن ثقتي بقانونية دراجتي دفعني للاقتراب منه وإبراز أوراقي وأدلتي على التزام القانون. كان واضحاً أنه لم يُعجب بثقتي، قلّب بأوراقي، تأمّل بالدراجة جيداً إلى أن عثر على ضالته وهي أن أرقام لوحة الدراجة مكتوبة بالعربية فقط ولا يوجد بجانبها أرقام أجنبية، فسلبني مفتاح الدراجة وقال لي "صف عاليمين انت محجوز لأن النمرة مخالفة". وقفتُ بجانب دراجتي أودّعها أرقب عنصر الأمن وهو يغضّ النظر عن دراجات بسبب معرفة بأصحابها، أو يتلقى اتصالات هاتفية من "فوق" تطلب منه إخلاء سبيل دراجات أخرى. لم أنم ليلتها، فقد شعرت بغبن وظلم كبيرين، خاصة أنني كنت أدرك أن الإفراج عن دراجتي سيكلفني ما يوازي ثمنها.

في المرة الثانية وقد غيّرت لوحة الدراجة بأخرى قانونية وكنت أسير على أوتوستراد المدينة الرياضية ببيروت. مرة أخرى قابلتني دورية لحجز الدراجات. هذه المرة حاولت تجاهلها لأنني أدركت أن حجز الدراجة لا يتعلق بمدى قانونيتها بل بنفوذ صاحبها وهو ما أفتقده، لكن أحد العناصر انقضّ عليّ وأمسك الدراجة. حار ودار محاولاً العثور على أيّ شيء يمكّنه من حجز الدراجة فلم يجد، فلمّا وجدني مطمئنّا ولم أتوسل إليه قال لي "شكلك مرتاح عوضعك.. انت عارف انو فيني اكسر واجهة الموتو واحجزك بسببها؟".

استذكرت هاتين الحادثتين بعدما انشغل اللبنانيون قبل أيام بحادث تضارب حصل بين أحد العناصر الأمنية ومحام. معظم اللبنانيين تعاطفوا مع المحامي لأن زوجته المحامي كانت برفقته وصوّرت الحادثة هي إعلامية معروفة وناشطة في وسائل التواصل الاجتماعي وتنسج علاقات مع عدد كبير من المؤثرين. لم يكن أحد مستعداً لتصديق رواية القوى الأمنية والتي تقول بأن المحامي هو الذي بادر لشتم الدركي والاعتداء عليه، وأن الدركي كان يحاول الدفاع عن نفسه. فثقة اللبنانيين -وأنا منهم- بالقوى الأمنية مفقودة، وبالتالي الدركي متهم ولو ثبتت براءته، لكن هذا لاينفي حقيقة أن غياب سلطة الدولة وتهتّك مفهوم سيادة القانون دفع بكثير من الناس للاستقواء على عناصر القوى الأمنية والإساءة إليهم وإهانتهم، وإذا ما بادر عنصر الأمن للرد على الاعتداء والثأر لكرامته تقوم الدنيا ولا تقعد.

قبل أسابيع حادثة اعتداء مماثلة حصلت مع محام آخر اعتدى بالضرب على عناصر أمنية، فتمّ احتجاز المحامي ليتدخل نقيب المحامين ويقتحم مكان الحجز ويقوم بإخلاء سبيل المحامي دون أي سند قانوني، مُهرقاً بذلك كرامة المعتدى عليه ومعه كرامة قوى الأمن الداخلي وفوقها سلطة القضاء التي يُفترض بنقيب المحامين أن يكون أحرص الناس عليها.

المشكلة تكمن في غياب الوازع الأخلاقي والمحاسبة القانونية بشكل يدفع العناصر الأمنية لاستنساب تطبيق القانون على من يشاؤون واستسهال الاعتداء على المدنيين متسلّحين بالبدلة العسكرية التي يرتدونها. هذا الأداء جعل هيبة الأجهزة الأمنية مهدورة، وسلطة القانون غائبة، والمواطن يبحث عن ثقته بأجهزة الدولة فلا يجدها، مما جعله يستقوي على عناصر الأجهزة الأمنية ويسيء إليهم غير عابئ لا بسلطة ولا قانون ولا قضاء طالما أن اتصالاً منه مع الزعيم كفيل بإخراجه من السجن ولو كان معتدياً.

أوّاب إبراهيم