العدد 1385 / 6-11-2019

منذ فتحت عيوني على هذه الدنيا وأنا أتابع إيران ومن يدور في فلكها , ينظمون فعاليات ومؤتمرات ومظاهرات تحت عنوان الوحدة الإسلامية. فأطلقوا يوم الوحدة الإسلامية، وابتكروا أسبوع الوحدة الإسلامية، وأنشاءا مجلة أسبوعية حملت اسم "الوحدة الإسلامية". كما حرصت إيران على تشكيل أطر عديدة تروّج لفكرة الوحدة الإسلامية، وأن المذهبية مرض بغيض يستغلّه "أعداء الأمة" لبثّ الفرقة بين المسلمين. ويحرص قادة إيران وسفراؤها حول العالم في كل مناسبة على أهمية الوحدة الإسلامية، وأن هذه الوحدة هي الضمان لمواجهة الغطرسة الصهيونية والاستكبار العالمي المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية.

كل هذه الجهود التي بذلتها إيران وصرفت عليها ملايين الدولارات خلال العقود الماضية، بدّدها عشرات البلطجية قبل أيام وسط بيروت، وفي بعض مناطق الجنوب، باعتدائهم الهمجي والمباغت على المعتصمين، باسم الشيعة والإمام علي (كرم الله وجهه)، ودفاعاً عن "السيد" الذي لم يأت على ذكره أحد.

خلال لحظات وبكبسة زر لا أحد يعلم من كبسه، تحوّل المعتصمون السلميون الرافضون للفساد والسرقة والنهب في السلطة تحوّلوا من مناضلين وشرفاء إلى عملاء السفارات وأميركا و"إسرائيل"، وبات هدفهم القضاء على المقاومة، ومن أجل ذلك يجب القضاء عليهم وسحقهم وطردهم.

أحدهم قال وهو يعتدي على المعتصمين عند جسر الرينغ "نحنا شيعة الإمام علي لن نفتح جسر الرينغ فقط بل سنفتح كل لبنان"، آخر كان يوجّه الشتائم للهاربين من عصاه الغليظة "السيد حسن من بعد الله يا (...)"، ثالث ظهر أمام الشاشات وهو يحاول إحراق مجسم القبضة الذي نصبه المعتصمون وسط ساحة الشهداء وتخرج من فمه كلمات غير مفهومة حول الانتقام لما حصل في كربلاء (!!)، رابع غطّى وجهه أثناء ضرب المعتصمين، لكنه حين شاهد كاميرا تصوّره اقترب منها وكشف عن وجهه وصرخ في المراسلة "نحنا قدّمنا دم وشهداء"، طبعاً لم يفهم أحد ما علاقة ما قاله بما ترتكبه يداه لكن الواضح أنه كان مقتنعاً بوجود علاقة ما (!!).

بكبسة زر واحدة تغيّرت وجهة شريحة من اللبنانيين الذين يطلقون على أنفسهم اسم "جمهور المقاومة" من تأييد الحراك الشعبي إلى تخوينه والعداء له، وبات كل مؤيد لهذا الحراك الموجوع من تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والرافض لاستمرار الفساد والسرقة والنهب في السلطة هو عميل مندس يجب القضاء عليه.

كبسة الزر لم تؤثر فقط على البلطجية والعوام الذين يتم استخدامهم كل فترة لتهديد اللبنانيين وترويعهم، بل طال أيضاً فئة يفترض أنها مثقفة وتحمل شهادات عليا، وتدرّس في الجامعات، ويفترض أنها لاتتأثر بكبسات الزر. لكن من الواضح أن "جمهور المقاومة" على اختلاف ثقافته ووعيه، يخضع لكبسة الزر نفسها، ومن كان ينظّر لنزاهة الحراك وأهميته وضرورته، هو نفسه بات ينظّر لخطورة هذا الحراك وضرورة محاصرته والقضاء عليه..

فجأة وبكبسة زر تختفي عبارات التسامح والتواضع والدعوة للتعاون والتكاتف لمواجهة الأخطار المشتركة، وتحلّ مكانها عبارات التهديد والتخوين والتلويح بالأصابع في الهواء تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور ان لم يتم الخضوع لرغباتها. بكبسة زر يصبح العيش المشترك نكتة سمجة، ويحلّ مكانه رغبة جامحة من مواطنين لبنانيين يستمتعون بالاعتداء والاقتصاص من مواطنين آخرين ويتلذّذون بإذلالهم وإهانتهم، لا أحد يعرف لماذا، من يعرف هو فقط من ضغط على كبسة الزر.

بكبسة زرّ يتحوّلون إلى قطيع منوّم مغناطيسياً، يُخرجون من عقولهم قيم التسامح والمواطنية والتضامن، ويُدخلون في عقولهم أحقاداً اجتروها منذ أكثر من 1400 سنة، وتتحوّل قضية مطلبية معيشية وثورة على الفساد إلى مؤامرة صهيوأميركية على المقاومة وأهلها.

قد يستمر تنظيم المحاضرات والمؤتمرات والتظاهرات المنادية بضرورة التكاتف لمواجهة الاستكبار العالمي، وقد يعود التنظير لأهمية الوحدة الإسلامية والتضامن والتكاتف لمواجهة الأخطار والمؤامرات الخارجية، لكن لا أحد يضمن أن كبسة زر جديدة ستخترع مؤامرة في الداخل، تبرّر لقطيع من المغفلين أعمال القتل والضرب والتخريب.

أوّاب إبراهيم