العدد 1358 / 17-4-2019
أواب إبراهيم

قبل قرابة عامين، وبعد أشهر قليلة من انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، كان "العهد القوي" يبحث عن إنجاز يقدمه للبنانيين، فأقرّ مجلس النواب دون دراسة سلسلة الرتب والرواتب، التي اعتبرها "العهد" إنجازاً له. طالت السلسلة رواتب موظفي القطاع العام الذين يعدون قرابة مئتي ألف من عسكريين وأفراد الأجهزة الأمنية وموظفي إدارات الدولة، فرفعتها وزادت من الامتيازات المحيطة بها، وأبقت على رواتب موظفي القطاع الخاص على حالها، الذين ازداد فقرهم فقراً.

العقل يقول أن السلطة حين أقرت السلسلة أوجدت معها مصادر لتمويلها، ولم يكن يدور في خلد أحد أن تصل سذاجة السلطة في مجلسي وزرائها ونوابها لإقرار سلسلة دون تأمين تمويلها، وهو ما تفاجأت به مؤخراً، بعدما أدركت أنها في حال الاستمرار في دفع الرواتب حسب السلسلة، فإن خزينة الدولة ستصل الى الإفلاس. ويسجل في هذا الإطار جرأة لافتة لوزير الخارجية جبران باسيل، بعيداً عن اتهامات الفساد الكثيرة التي تحيط به وبمن حوله، أنه يتحدث بشكل صريح بعيد عن الشعبوية عن الأزمة المالية، وعن ضرورة تخفيض رواتب موظفي القطاع العام والتقديمات والامتيازات التي يحظون بها كمخرج وحيد لإنقاذ البلد من الإفلاس، وهو ما لم يجرؤ على القيام به أي مسؤول آخر مراعاة لخواطر مؤيديه من الموظفين. بل على العكس، يواصل بعض المسؤولين طمس رؤوسهم في الرمال، والتحذير من المساس برواتب الموظفين، في خطاب شعبوي يستجلب التصفيق والإعجاب من الموظفين، لكنه لايستجلب ليرة واحدة لتمويل هذه الرواتب.

شيوع خبر تخفيض الرواتب أو امتيازات القطاع العام، دفع المتضررين للتحرك ومحاولة استباق أي مسعى من الحكومة للمساس برواتبهم. فتظاهروا واعتصموا وأحرقوا الدواليب وقطعوا الطرقات، وتوعّدوا بخطوات تصعيدية في حال أقدمت الحكومة على أي إجراء. ولولا أن التظاهر محظور عليهم، لشهدنا تظاهرات واعتصامات وإقفال طرقات يقوم بها عسكريون وضباط في الخدمة الفعلية.

مشكلة السلطة أنها تتعامل مع القطاع العام وكأنهم كل الشعب اللبناني، فحين أقرت السلسلة كان هدفها إرضاؤهم قبيل الانتخابات النيابية رغم أنها ساهمت في اتساع الفجوة المالية بين اللبنانيين. فارتفع مستوى معيشة موظفي القطاع العام رغم ضعف إنتاجيتهم، في الوقت الذي لم يتغير وضع موظفي القطاع الخاص الذين يشكلون غالبية اليد العاملة في لبنان، بل زاد وضعهم سوءا بسبب ارتفاع حدة التضخم, وهم اليوم يتفرجون على احتجاجات وغضب موظفي القطاع العام، بسبب عزم الحكومة تقليص منح التعليم التي يتقاضونها، أو عدد بونات البنزين التي يوزعونها ويبيعونها على من يعرفون، والسيارات الموزعة عليهم والتي تستخدمها الزوجة للتسوّق، أو لإيصال الأبناء إلى مدارسهم، هذا عدا عن مضاعفة معاشات التقاعد ونهاية الخدمة.

أزمة موظفي القطاع الخاص لاتنحصر فقط في شعورهم بالغبن مما يناله موظفو القطاع العام من مخصصات، بل في أن هذه المخصصات والرفاهية التي يحظى بها القطاع العام مصدر تمويلها جيوب موظفي القطاع الخاص، الذين لاينالون أي امتيازات. فلا منح تعليم ولا تأمين طبي ولا بونات بنزين ولا تخصيص لسيارات..

أحد أوجه الأزمة المالية بالنسبة للسلطة أنها تدرك بأن تخفيض امتيازات القطاع العام يعني اصطداماً مع قواعدها الشعبية، الذين زرعهم الزعيم أو الوزير أو النائب في مختلف الإدارات والأسلاك العسكرية, فليس سراً أن التوظيف في إدارات الدولة يتقاسمها أقطاب السلطة فيمنحونها لمن يريدون، ومن المعروف كذلك أنه لايمكن لأي مواطن أن يُقبل في وظيفة عامة مها دنا شأنها إلا إن كانت سبقته واسطة أو توصية من طرف المسؤول أو الزعيم، ويندر أن تجد موظفاً في القطاع العام لايتبع حزباً أو زعيماً، وبالتالي فإن اهتمام السلطة بموظفي القطاع العام والحفاظ على مكتسباتهم المالية ليس حرصاً عليهم، بل استرضاء لهم واستمراراً في الإبقاء على ولائهم وتبعيتهم لهم.

أوّاب إبراهيم