العدد 1357 / 10-4-2019
أواب إبراهيم

لم يسبق أن أصيب الجسم القضائي في لبنان بالتوتر والذعر كما هو حاصل هذه الأيام. فحملة مكافحة الفساد التي رفعت الطبقة السياسية لواءها قبل فترة بدأت تؤتي ثمارها، وهي أدّت حتى اليوم إلى كفّ يد عدد من القضاة عن مهامهم، وتوقيف عدد آخر من المساعدين القضائيين ورؤساء الأقلام والكتبة ومرافقي القضاة ومحامين وموظفين إداريين في قصور العدل، ومن المتوقع أن تشمل عدداً إضافياً في المرحلة المقبلة.

هي المرة الأولى التي يكون فيها الجسم القضائي فقفص الاتهام وليس وراء قوس العدالة يحققون مع المتهمين، فلطالما تمتع القضاة بحصانة جعلتهم فوق الشبهات، ويتمتعون بغنج ودلال دون غيرهم من موظفي القطاع العام، وحين يفكر أحد بالاقتراب مما يعتبره القضاة مكتسبات لهم تثور ثائرتهم، ويهددون ويتوعدون بالاعتكاف، ويكيلون الاتهام للسلطة السياسية بمحاولة الضغط عليهم لتطويعهم والتأثير على أحكامهم وقراراتهم.

هكذا حصل حين أقرت سلسلة الرتب والرواتب، فرواتب بعض الموظفين قاربت رواتب القضاة، وهذا ما اعتبره القضاة إهانة لهم ومساساً بكرامتهم. فهم فوق الجميع، ولايجوز أن يكون راتب موظف مهما علت فئته موازياً لرواتبهم، طبعاً دون النظر للتقديمات والامتيازات الكثيرة التي تصل القضاة علاوة على الراتب، فهددوا الحكومة بالاعتكاف وعدم حضور جلسات محاكمهم، مما اضطر الحكومة للرضوخ والاستجابة لمطالبهم، فتم رفع رواتبهم كي تبقى محلّقة وحدها.الأمر نفسه حصل حين قرّرت الحكومة تفعيل عمل الإدارات العامة، وتنشيط وتيرة إنجازاتها، وهمس البعض بضرورة تقصير مدة العطلة القضائية التي ينعم بها القضاة ، والتي تبلغ شهرين كل عام (60 يوماً)، انسجاماً مع تفعيل عمل الإدارات، وحرصاً على البتّ بأكبر قدر ممكن من آلاف الملفات المهملة في أدراج المحاكم. مرة أخرى هدّد القضاة بالويل والثبور إن تمّ المساس بعطلتهم القضائية، فرضخت الحكومة مجدداً والتزمت بما أراده القضاة. ومازالوا ينفردون دون غيرهم بإجازة صيفية توازي العطلة الصيفية لطلاب المدارس. الفارق أن عطلة الطلاب مجانية، بينما عطلة القضاة مدفوعة الأجر.

الذريعة التي يقدمها القضاة للتمسك بامتيازاتهم وعلاواتهم هي الحرص على استقلالهم وعدم السماح بالتدخل في عملهم، وهذا يستدعي امتلاكهم لحصانة مالية ووظيفية واجتماعية تجعلهم في مكانة أعلى من الآخرين. هذه الذريعة يدرك الكبير والصغير عدم صحتها، فلا استقلال للسلطة القضائية في لبنان، والحصانة الحقيقية والفعلية للقضاة ليست مناقبيتهم ونزاهتهم بل الغطاء السياسي والطائفي الذي يحظون به. هذا الغطاء وإن كان مسيئاً لصورة القاضي لكنه لم يعد سراً، فبات مألوفاًحضور كبار القضاة الصفوف الأولى لاحتفالات المسؤولين والزعماء، وحرص صغار القضاة على حضور مجلس المرجعية التي يتبعون لها، علّ ذلك يؤهلهم للانتقال لمركز مرموق أو درجة أعلى، والعارفون بشؤون قصور العدل يتندرون حول تصنيف المرجعية السياسية التي يتبع لها كل قاض، ويُنشر كل ذلك في وسائل الإعلام دون أن يجد المعنيون بالحفاظ على هيبة القضاء ضيراً في ذلك.

فالقاصي والداني يدرك أن مصير القضاة بيد السلطة السياسية التي تتحكم باختيارهم وتوزيعهم على المحاكم والغرف والنيابات العامة والمجلس المتخصصة، وإذا خرج أحد منهم عن طوع مرجعيته يُنفى لمحكمة نائية أو يُحال للتقاعد المبكر، علاوة على كشف ارتكاباته ومخالفاته. واللبنانيون يذكرون اعتكاف عدد من قضاة المجلس الدستوري (أعلى هيئة دستورية) عام 2013 استجابة لطلب مرجعياتهم السياسية لتجنب البحث في الطعن المقدم في تمديد ولاية المجلس النيابي. ولعلّ ماقام به النائب وليد جنبلاط قبل فترة مؤشر كاف على مدى تبعية القضاة للسلطة السياسة، فهو أعلن صراحة عن جمع القضاة الدروز في المختارة للتوافق على المرشحة التي اختارها هو لتخلف قاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا (الدرزي) في منصبه. ما فعله جنبلاط جهارة تفعله كل المرجعيات السياسية سراً.

تبعية القضاة وعدم استقلاليتهم لايطعن بنزاهة ونظافة كفّ ومناقبية الكثير منهم، لكن فارقاﹰ كبيراﹰ بين الادّعاء باستقلالية متوهمة، وبين نزاهة بعض القضاة.

أوّاب إبراهيم