بقلم: أواب إبراهي

لم تكن الفتنة في لبنان في يوم من الأيام نائمة، فلطالما كانت مستيقظة تبحث عن فريستها. ربما تأخذ قيلولة بين الحين والآخر، لكنها سرعان ما تستعيد نشاطها وزخمها من جديد، فتعود لتفتك بالنسيج اللبناني المجتمعي وتزيد في ترهّله وتهتّكه. وها هي اليوم تعود إلينا بعد استراحة قصيرة، لتطلّ برأسها بعدما وجدت أن الظروف باتت مهيّأة لتبث سمومها في قلوب وعقول ونفوس اللبنانيين، وكذلك نفوس النازحين السوريين الذين يعيشون على أرضه. 
ولكن كيف تهيأت الظروف التي ساهمت في استعادة الفتنة لنشاطها وحيويتها، ومن المسؤول عن إيقاظها من قيلولتها، وكيف السبيل لتعود إلى النوم من جديد؟
بدأت الحكاية قبل أسابيع مع المداهمات التي قام بها الجيش اللبناني في مخيمات النازحين السوريين في منطقة البقاع، واعتقال المئات منهم. بعد أقل من 24 ساعة أعلن الجيش وفاة أربعة موقوفين في مراكز التوقيف قبل بدء التحقيق معهم. إلى هنا لم تكن الفتنة قد استيقظت بعد، وكان بالإمكان الهدهدة لها حتى تعاود الغرق بالنوم من جديد، ويكون ذلك من خلال إجراء تحقيق شفاف يكشف ملابسات وفاة الموقوفين، ومعاقبة من ثبت تقصيره وذنبه في حال حصوله. لكن ذلك لم يحصل، واستمر الغموض يلاحق القضية، وتعزز الشك بعدما منعت مخابرات الجيش إحدى المحاميات من الحصول على عينات طبية من المتوفين. ترافق كل ذلك مع حملة إعلامية وسياسية مسعورة هددت وتوعّدت وخوّنت كل من يشكك بالجيش اللبناني، أو يطالبه بالتحقيق لتبييض صفحته، وتوضيح أي غموض.
في هذه المرحلة بدأت الفتنة تشعر بمناد يناديها أن استيقظي، فأوانك قد حان، لتبدأ عملها مستفيدة من قلوب مريضة شنّت حملة من الحقد والكراهية والتشاتم على وسائل التواصل الاجتماعي، سواء من بعض اللبنانيين أو بعض السوريين المنتشرين في العالم. وكما في كل فتنة، يدخل على الخط المستفيدون منها، فيسعون لتأجيجها، والحرص على استمرارها. هذا الوضع كانت نتيجته الطبيعية تجدد الاعتداءات على النازحين في أكثر من منطقة، وأن نشاهد مقاطع مصورة للاعتداء بالضرب على نازح سوري وإرغامه على شتم بلاده والتمجيد بالجيش وقائد الجيش ورئيس الجمهورية، والنيل من عرضه وكرامته.
أصحاب القلوب المريضة ليسوا فقط الذين اعتدوا وشتموا، هم كذلك بعض المسؤولين في السلطة الذين رافقوا الفتنة بتصريحات تفوح منها رائحة الكراهية والعنجهية الفارغة. فيطل نائب (قريب لرئيس الجمهورية) ليحذر السوريين بأن «لايركبوا على ظهرنا»، رغم أن الوصاية السورية لطالما اعتادت الركوب على ظهره وظهر فريقه. ويطل آخر محذراً النازحين من أن أي تحرك سيلقى العقاب ليس من السلطة والأجهزة الأمنية بل من اللبنانيين أنفسهم، دون أن تتحرك السلطة اللبنانية، ليس لتطبيق القانون فقط، بل لمحاولة السيطرة على فتنة إذا اتسعت تأكل في طريقها الأخضر واليابس.
هذا الواقع المأزوم لم يستدع من السلطة أي تحرك استثنائي لتدارك الأزمة التي يمكن أن تحصل بين اللبنانيين والسوريين في لبنان. وعوض ذلك خرجت تصريحات سياسية سطّحت المشكلة، وكانت عبارة عن مواقف كانت أقرب إلى عظة كنسيّة، فدعا فخامة الرئيس لعدم نشر الكراهية وعدم تحميل النازحين السوريين وزر ما يرتكبه آخرون، وأن ما يتم تداوله لا يعكس حقيقة لبنان كبلد للتعايش والتسامح ولا طباع اللبنانيين وأخلاقهم.
من محاسن الصدف أن حملة الكراهية تجاه النازحين السوريين والدعوات لطردهم بسبب الأعباء التي يلقونها على كاهل لبنان تزامنت مع مساعي حزب الله لإعادة النازحين إلى سوريا. والأمين العام للحزب كرر في إطلالاته الأخيرة الدعوة للتواصل مع النظام السوري لتأمين عودة النازحين. والمفارقة أن الحزب التزم الصمت إزاء حملة الكراهية التي يقودها لبنانيون تجاه النازحين، بل إن بعض الأيدي التي اعتادت التصفيق لحزب الله، هي التي ترتفع اليوم مهددة ومتوعدة النازحين بعظائم الأمور.. هي على الأرجح مجرد صدفة.
من السهل جداً أن تستيقظ الفتنة، لكن الصعوبة تكمن في كيفية إعادتها للنوم.>