أواب إبراهيم

ما زلنا نعيش ذكرى مرور عشر سنوات على العدوان الإسرائيلي في تموز 2006. هذا العدوان الذي كان من نتائجه نزوح عشرات آلاف اللبنانيين إلى سوريا. لم تطل المدة، أسابيع قليلة حزم بعدها النازحون أمتعتهم وعادوا إلى قراهم وبلداتهم في الجنوب. يُحسب للشعب السوري كرمه وشهامته في الترحيب بالنازحين الذين تقاسم معهم لقمة الخبز ومخدع النوم، في حين أن غاية النظام السوري من هذا الكرم كانت مساندة حليفه «حزب الله» في معركته. 
دارت الأيام وتغيرت الظروف، وأدت الثورة التي اندلعت في سوريا عام 2011 إلى نزوح مئات آلاف السوريين إلى لبنان، وتشير التقارير إلى أن العدد وصل إلى مليون وثمانمائة سوري مسجلين على لوائح مفوضية شؤون اللاجئين، يضاف إليهم أعداد كبيرة دخلت لبنان بطرق غير شرعية وهي غير مسجلة في كشوفات رسمية.
الدولة اللبنانية منذ اللحظة الأولى وضعت رأسها في التراب، وتجاهلت تدفق آلاف النازحين إلى أراضيها، ومن كان يهمس بضرورة الحاجة لبناء مخيمات خاصة لاستيعاب اللاجئين كان يتم اتهامه وانتقاده وإسكاته. ففي بلد مركب طائفياً كلبنان، من غير المسموح الإقرار بأي تغيير ديمغرافي للساكنين على أرضه، فعبر النازحون السوريون من الحدود الشرقية والشمالية، وحطّوا رحالهم أينما وجدوا مكاناً يمكنهم أن يبيتوا فيه مؤقتاً، لكن هذا المؤقت مرّت عليه خمس سنوات، ولا تلوح في الأفق بوادر لقرب انتهائه.
شريحة كبيرة من اللاجئين السوريين توزّعوا في المدن والمناطق المكتظة بساكنيها اللبنانيين، فانصهروا بينهم ولم يبرز لهم وجود واضح، اللهم إلا ارتفاع في الكثافة السكانية، وضغط مضاعف على البنى التحتية من ماء وكهرباء وصرف صحي. لكن هذا الاختفاء ساعد الدولة اللبنانية في مهمتها بدفن رأسها في التراب، وإعفائها من مهمة معالجة أزمة النازحين، والقيام بدورها في استقبالهم وإحصائهم وجمعهم وإسكانهم في مخيمات خاصة تتوافر فيها مقومات العيش الكريم. لكن الدولة انشغلت بمشاكلها العادية، معتقدة أن أزمة النازحين ستجد حلها بنفسها. 
اليوم، بعد مرور خمس سنوات على هذه الأزمة، استيقظت الدولة من سباتها، وحاولت إخراج رأسها من الرمال فلم تستطع، فقد تبيّن أن الأزمة جعلتها مدفونة تحت الرمال، ولم يعد بإمكانها فعل شيء لمعالجة مشكلة تواصلت على مدى خمس سنوات، فلم يجد رئيس الحكومة تمام سلام في كلمته أمام القمة العربية في نواكشوط أكثر من المطالبة بتشكيل هيئة عربية تعمل على إنشاء مناطق إقامة للنازحين داخل الحدود السورية، وهو يدرك أن طلباً كهذا مستحيل واقعياً لعدم وجود مناطق آمنة على الأراضي السورية، وكذلك لعدم رغبة لدى العرب بتمويل مشروع مشابه.
التعاطف مع أزمة اللاجئين السوريين لا ينفي حقيقة أن وجودهم سبب مشاكل كثيرة وكبيرة، وهذا أمر ليس سراً ولا عيباً. فحين يعيش مليونا نسمة إضافية في بلد يعيش على أرضه قرابة أربعة ملايين نسمة، فهذا يعني إضافة 50% على السكان دفعة واحدة، وهو يعني تقنياً ضرورة تطوير البنى التحتية وسوق العمل بذات النسبة، وهو مالم يحصل. بل على العكس، شهد لبنان تراجعاً كبيراً في بناه التحتية المهترئة أصلاً، كما شهد ركوداً اقتصادياً انعكس في ارتفاع نسبة البطالة، عدا عن الكثافة السكانية وما قد تخلّفه من مشاكل وأمراض..
لكن المشكلة الأبرز التي أفرزتها أزمة النازحين السوريين كانت إظهار وجه قبيح لبعض اللبنانيين، الذين كشفوا عن عنصرية وفوقية مقيتة، تمثلت بالإساءة إلى النازحين، وامتهان كراماتهم، والاعتداء عليهم بالضرب وتقييد حركتهم. هذه الإساءة لم يقتصر ارتكابها على مواطنين تخلّت عنهم إنسانيتهم، بل وصلت إلى بعض الأجهزة الرسمية، أمنية وبلدية وحكومية. السلطة اللبنانية كما دفنت رأسها إزاء أزمة النازحين تواصل دفن رأسها إزاء ما يتعرضون له من إساءات واعتداءات. أما إذا تسرب شيء إلى وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها تكتفي بتصرف شكلي يحفظ ماء وجهها أمام المجتمع الدولي، حرصاً على استمرار وصول المساعدات للاجئين، لتعيد دفن رأسها في الرمال من جديد.