أواب إبراهي

طريفة هي الصحافة اللبنانية، تبادر إحداها لإطلاق وصف على حدث معيّن، فتنقل أختها الوصف نفسه، ثم تنقله لأختها الأخرى، وهكذا حتى ينتشر الوصف في الإعلام ويشيع بين رجال السياسة ليصبح مصطلحاً إعلامياً وسياسياً جديداً يُضاف إلى قاموس السياسة اللبنانية. 
بهذه الطريقة أطلق الإعلام اسم «قانون غازي كنعان» على قانون عام 1960 الانتخابي، وكذلك تم إطلاق  تصنيف القوى السياسية بين 8 و14 آذار نسبة إلى تاريخ اجتماعها في ساحة الشهداء عام 2005، وأيضاً مصطلح الثلاثية الذهبية التي نجح حزب الله وحلفاؤه بفرضها على الإعلام والقوى السياسية كشرط لصياغة البيان الوزاري.
من المصطلحات الطارئة التي دخلت القاموس مؤخراً «أرنب» الرئيس نبيه بري. ففي كل محطة من المحطات التي تتأزم فيها الأمور، يخرج علينا رئيس مجلس النواب بحلّ من جعبته اصطلح على تسميته بالأرنب. آخر هذه الأرانب ما أعلن عنه بري في مؤتمره الصحفي قبل أيام أن مجلس النواب ليس بحاجة لعقد استثنائي للانعقاد، لأن للمجلس ديناً في عهدة رئيس الجمهورية، هو الشهر الذي علّق خلاله انعقاد المجلس، داعماً أرنبه باجتهاد فقهي فرنسي للدستور الفرنسي الذي انبثق منه الدستور اللبناني.
مخطئ من يظن أن العهد الجديد لم يغيّر شيئاً في الأداء السياسي، فالدستور بعد انتخاب رئيس للجمهورية لم يعد كتاباً تتزيّن به مكتبات السياسيين، بل بات ملجأ لكل من يُحشر في الزاوية ويريد التهرب من استحقاق داهم. هكذا فعل النائب وليد جنبلاط حين برّر رفض كل الصيغ الانتخابية التي عُرضت عليه من خلال اشتراطه تشكيل مجلس الشيوخ الذي نص عليه اتفاق الطائف، وهو ما يقوم به فريق رئيس الجمهورية مؤخراً بالمطالبة بإنقاص عدد مقاعد مجلس النواب إلى 108 نواب كما نص اتفاق الطائف، كمدخل لإعادة النقاش حول القانون الانتخابي، بعدما تبيّن أن الصيغ التي يتم تداولها لاتمنحه العدد المأمول من النواب الذي يسعى إليه، وأن الصيغة التي سعى لإقرارها لم تلق القبول من حلفائه قبل خصومه. وهو ما فعله فخامة الرئيس قبل ذلك باجتراح مادة من الدستور لم يسبق استخدامها إلا مرة واحدة خلال الانتداب الفرنسي ولم يكن ينتبه إليها أحد، وهي تعليق انعقاد مجلس النواب لمدة شهر، وهو ما فعله رئيس مجلس النواب من خلال الأرنب الذي أخرجه من جعبته، وهو هذه المرة لم يستند إلى نص دستوري، بل إلى اجتهاد فقهاء فرنسيين في تفسير الدستور.
أعود فأقول، أن يكون الدستور اللبناني مرجعاً في العمل السياسي وسقفاً يحتكم إليه الجميع، فهذا أمر محمود ينقل لبنان من مجموعة الدول المتخلفة إلى مصاف الدول المتمدنة والمتحضرة، لكن تفصيلاً صغيراً ما زال ناقصاً، وهو أن التمسك بالدستور وتشبّثه بحروف مواده واجتهادات فقهائه لا يتعلق بالحرص على تطبيق الدستور، بل للاعتراض وقلب الطاولة على الآخرين. فأن يتمسك فريق رئيس الجمهورية بعدد النواب الذي نصّ عليه اتفاق الطائف لا يستقيم طالما أنه لم يقرن هذا التمسك بالتقسيمات الإدارية التي نصّ عليها الاتفاق نفسه. كما أنه لايصح أن يعتبر فريق رئيس الجمهورية –مستنداً للدستور- مجلس النواب فاقداً للشرعية وغير ذي صلاحية لإقرار القوانين بعدما مدّد لنفسه مرّتين، ثم بعد ذلك يقبل أن ينتخب هذا المجلس رئيس الجمهورية، طالما أن من سيتم انتخابه هو مرشح هذا الفريق.
خلال عهد الوصاية السورية لم تكن الطبقة السياسية بحاجة للبحث في الدستور، فلم يكن هناك مجال للخلاف بين اللبنانيين طالما أن الأمور تصلهم جاهزة ومطبوخة من عنجر وما عليهم إلا التنفيذ، سواء كان ما وصلهم مناسباً أم لا. وبعد مغادرة الجيش السوري - وبقاء وصايته من خلال حلفائه- استمر تجاهل الدستور، وكان من نتيجة ذلك حصول تنازع وتناتش بين القوى اللبنانية، شكّلت أحداث 7 أيار 2008 أحد إفرازاتها. الجديد منذ انتخاب رئيس الجمهورية هو عودة الروح إلى الدستور، لكنها روح انتقائية مجتزأة، تتخير القوى السياسية ما يناسبها منه، تتمسك به معلنة أنها تريد تطبيق الدستور، فتأخذ منه ما يناسبها وتغضّ الطرف عما لا يناسبها، بانتظار التوصل لتسويات سياسية تحفظ مصالح هذه الأطراف، حينها لا يعود أحد يسأل عن دستور.>