العدد 1417 / 17-6-2020

قبل أيام تداول ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان مقطعاً مصوّراً لامرأة تحمل ابنها على يدها تمشي في أحد أزقة مخيم شاتيلا، عاجلتها رصاصة في رأسها أثناء اشتباك بين تجار المخدرات في المخيم فسقطت قتيلة على الأرض. لم يهتم أحد بالمرأة القتيلة ولا بهويتها ولا بمصير ابنها الذي وقع أرضاً. كل ما عرفناه أنها فلسطينية الجنسية، وكان ذلك سبباﹰ لكثيرين لإهمال ما اصابها. المقطع المصوّر استمر تداوله لساعات قليلة قبل أن يطويه النسيان، وتُطوى معه مأساة امرأة. لم يطالب أحد بمعرفة القاتل، ولا الاقتصاص منه، ولم تنظم من أجلها تظاهرات غاضبة، ولولا المقطع المصوّر ربما لما أتى على ذكرها أحد.

قبل أيام أيضاً انشغل العالم العربي ومعه وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ونجوم وفنانون وإعلاميون وقادة رأي مؤثرين بخبر انتحار فتاة مصرية تدعى سارة. وصلت إلى كندا قبل عامين قادمة من مصر بعد قضائها ثلاث سنوات في السجن بعدما رفعت علم "قوس قزح" الذي يرمز للشاذين جنسياً، ودفاعها الدائم عن حقوق الشاذين. رغم مرور أيام على انتحار سارة حجازي إلا أن قضيتها مازالت تشغل الكثيرين الذين لم يكتفوا بتعاطفهم مع قضيتها بل أرادوا فرض تعاطفهم على الآخرين، وباتت معركتهم هي مقارعة الذين لم يشعروا بالحزن والأسى والألم على انتحار سارة ولم يبدوا التعاطف لانتحارها.

لن أخوض في جدال حول الموقف من شذوذ سارة الجنسي ودعوتها وسعيها واجتهادها لإباحة الشذوذ في المجتمعات، كما لستُ معنياً باعتناق سارة الفكر الشيوعي، ولستُ معنياً كذلك بقرارها إنهاء حياتها بيدها لأسباب خاصة بها , فلها ربّ يحاسبها. ما يعنيني هو الضغط النفسي والمعنوي الذي يمارسه المتعاطفون مع انتحار سارة على الذين لم ولا يريدون التعاطف معها، فيتعرض من يرفض التعاطف لاتهامات بالتزمّت والتشدد وانعدام الإنسانية وفساد الأخلاق، فقط لأنه لا يريد التعاطف مع فتاة كانت تدعو للشذوذ الجنسي وقررت الانتحار، وبات معيار إنسانية المرء مرتبط بمدى التعاطف مع سارة من عدمه.

لا أحد يعرف لماذا قرر الإعلاميون ووسائل الإعلام وقادة الرأي والفنانون ونجوم المجتمع التعاطف مع انتحار سارة حجازي ولم يقرر التعاطف –مثلاً- مع المرأة التي قُتلت برصاصة في مخيم شاتيلا ولم تُعرف هويتها. لماذا يجب علينا جميعاً التضامن مع المعاناة والضغوط والتعذيب الذي تعرضت له سارة حين كانت في السجون المصرية، ويجب علينا عدم التضامن مع آلاف المعتقلين في السجون المصرية نفسها الذين يتعرضون منذ سنوات وكل يوم لشتى صنوف التعذيب وانتهاك أبسط حقوقهم الإنسانية نساء ورجالاً !.

لماذا مفروض على العالم التضامن مع انتحار سارة حجازي وليس لهم التضامن مع آلاف النساء السوريات اللواتي تم تشريدهنّ في أصقاع الأرض، وتقبع المئات منهنّ في سجون النظام السوري يتعرضن للتعذيب والاغتصاب بصمت، دون من يرفع الصوت أقلّه للتعاطف معهنّ والتضامن مع مأساتهن.

القضية ليست مرتبطة بسارة حجازي، لكنها مثال على التوجيه والإرغام النفسي الذي يمارسه بعض من يعتبرون أنفسهم قادة للمجتمعات لفرض ما يريدون، والتضامن والتعاطف مع القضايا التي يرغبون، وتهميش وإهمال قضايا أخرى لايرغبون بالاهتمام بها وإبرازها، أو التطرق لها حتى لو كانت المعاناة والظلم والقهر الذي يتعرض له هؤلاء يزيد بأضعاف الظلم الذي تعرضت له القضايا التي يهتمون بها.

القمع والاضطهاد لا تمارسه فقط الأنظمة الدكتاتورية بحق شعوبها. فقد منح البعض أنفسهم سلطة قمع آراء الآخرين وسلب إراداتهم، وفرض ما يجب أن يتعاطفوا معه وما يجب أن يهملوه. سلطة لا أحد يدرك من منحهم إياها، لكنها في جميع الأحوال لاتقل قمعاً عن الذي تمارسه الأنظمة الفاسدة الظالمة.

أوّاب إبراهيم