أواب إبراهيم

انتهت الانتخابات النيابية على خير، وانتهى معها قطوع رفع فيه المتنافسون نسبة التجييش الطائفي والمذهبي والسياسي بين مؤيديهم إلى أعلى مستوياته. وكما في كل استحقاق شعبي، شكلت صناديق الاقتراع مشهداً جديداً للخارطة السياسية، فمنحت أطرافاً مزيداً من الوهج والتألق والتقدم، وسلبت آخرين وهجاً طالما تنعموا به مستندين على أكبر كتلة نيابية طوال تسع سنوات، كانوا خلالها ينامون على حرير، وكانوا يتوقعون التجديد لهذه الكتلة، مهملين إرادة شعبية تبدل مزاجها خلال هذه السنوات.
رغم الصفعة المؤلمة التي وجهتها صناديق الاقتراع لبعض الزعامات والقوى، إلا أنها لم تكن كافية كي يتحلى هؤلاء بالشجاعة والجرأة لمواجهة جمهورهم ومعهم كل اللبنانيين بأن النتائج الضعيفة التي حققوها تعود لأخطاء ارتكبوها. بل إنهم على العكس من ذلك، يكابرون على أنفسهم وعلى قواعدهم الشعبية، ويعتبرون النتائج انتصاراً كبيراً حققوه نظراً إلى الحرب الشعواء التي تكالبت قوى الأرض لشنها عليهم، وأن ما تحقق هو إنجاز كبير وصفعة مدوّية لكل القوى التي سعت لإلحاق الهزيمة بهم.
الذريعة الأبرز التي يقدمها هؤلاء لتصوير تراجعهم على أنه انتصار، الادعاء بأن القانون الذي جرت على أساسه الانتخابات تم تفصيله فقط لإلحاق الهزيمة بهم والسعي لتقليص عدد مقاعدهم في مجلس النواب. تناسى هؤلاء أنهم هم الذين فصّلوا القانون وأجازوه، وأنهم شاركوا في اللجنة الوزارية التي قامت بقصقصة الدوائر الانتخابية حسبما يرغبون كي يتمكنوا من تحقيق النتائج الأفضل، وأنهم صوّتوا على هذا القانون في مجلس النواب وصادقوا عليه، وأنهم الذين فاخروا أمام الملأ بأن إقرار القانون الانتخابي هو أبرز الإنجازات التي حققوها. فكيف يكون القانون الانتخابي من إنجازاتهم وفي الوقت نفسه يكون الهدف منه السعي لتحجيمهم وتقليص نفوذهم في مجلس النواب!
الذريعة الأخرى التي قدمها البعض لذرّ الرماد في العيون وتبرير التراجع الذي أصاب كتلهم النيابية، هي الادعاء بأن الآخرين تآمروا عليهم وتجرأوا على ارتكاب جريمة خوض الانتخابات في مواجهتهم وتشكيل لوائح مقابلة للوائحهم. مشكلة هؤلاء أنهم يعيشون الوهم، فهم يعتقدون أنهم وحدهم من يحق لهم خوض الانتخابات، وأنهم وحدهم من يحق لهم الوصول إلى الندوة البرلمانية، وأنهم وحدهم من يمثلون الناس، وأنهم وحدهم من يحق لهم التحالف مع من يشاؤون ومناصبة العداء لمن يشاؤون، وأنهم وحدهم من يحق لهم نيل تأييد جمهورهم سواء كان أداؤهم مخزياً أو كان مشرّفاً. يتغافل هؤلاء عن وجود آخرين من قوى وأحزاب وبيوتات سياسية يحق لها أن تتمثل خارج عباءتهم، وأن يكون لهم صوت خاص بهم ولا يكون صدى لأصواتهم.
الذريعة الأخطر التي قدمها البعض لتبرير تراجعه هو الربط بين وجودهم وبين وجود الطائفة، والادعاء أن مواجهتهم هو تآمر الآخرين على الطائفة التي يمثلون. فبات الزعيم والتيار هو الطائفة وليس جزءاً منها، وباتت مواجهة هذا الزعيم هي مواجهة مع الطائفة، وبات تراجعه هو تراجع للطائفة، كأن الطائفة هي له وحده، ولا يحق لأحد من أبناء الطائفة أن يمثلها، فله وحده الحق الحصري بالحفاظ على عروبة بيروت، وله وحده حصرية تمثيل نهج الاعتدال، وله وحده مواجهة القوى التابعة للوصاية السورية والإيرانية، وكل ما عداه من أبناء الطائفة، هي قوى تتآمر على الطائفة وتساعد خصومها للقضاء عليها.
الانتخابات النيابية انتهت، وأفرزت واقعاً جديداً على جميع القوى التعامل معه ودراسة النتائج التي أفرزها. فمن تراجعت كتلهم النيابية وكانوا يعتقدون أنهم الممثلون الوحيدون لطوائفهم عليهم التواضع قليلاً والإقرار بالمشهد الجديد، والتعامل مع رغبة ناخبيهم بسحب حصرية تمثيلهم، وأن هناك أطرافاً أخرى تملك حيثية شعبية حقيقية يحق لها أن تتمثل وأن تكون موجودة في المشهد السياسي. فاحتكار التمثيل السياسي للطوائف لم يعد وارداً في القاموس اللبناني.