أواب إبراهيم

الأصل هو أن جميع اللبنانيين متساوون أمام القانون، على اختلاف مناطقهم وطوائفهم ومرجعياتهم السياسية. فلا فضل لبيروتي على بقاعي، ولا لماروني على درزي، ولا لمنتم لحزب الله على آخر منتم لتيار المستقبل... هذا في الأصل، أما في التطبيق فإن التمييز والتفاضل هو السمة الأبرز في تعاطي السلطة اللبنانية مع مواطنيها، فيتم الاستنساب في تطبيق القانون تجاه فئة محددة ويتم إهماله تجاه فئة أخرى، يتم التشدد في تطبيق الأحكام القضائية تجاه جهة، ويتم التساهل تجاه آخرين، تتحرك الضابطة العدلية لتنفيذ مذكرات توقيف صادرة بحق أبناء طائفة بعينها، وتتغافل عن تطبيق آلاف مذكرات التوقيف الصادرة بحق متهمين من أبناء طوائف أخرى.. التوظيف في المؤسسات العامة يكون متاحاً لمواطنين ومحظوراً على آخرين.. هذا التمييز دفع شرائح واسعة من اللبنانيين للشعور بالتهميش والإهمال، وأنهم يفتقدون وجود مرجعية سياسية أو طائفية تهتم بشؤونهم، وتدافع عن مصالحهم، وتكون جواز عبور لهم للتوظيف في مؤسسات الدولة.
الشرائح المهمّشة والمهملة من اللبنانيين قسم منها يحاول اللحاق بمن سبقه، فيبذل جهده للاستزلام لدى هذا الحزب أو تلك المرجعية الطائفية أو ذاك الزعيم، علّه بذلك يتمكن من رفع الغبن والظلم اللاحق به من خلال هذا الاستزلام والتبعية، وقسم آخر أعطوا الإهمال والتهميش اللاحق بهم ردة فعل عكسية، فتجدهم كفروا بالقانون والعدالة والدولة ومؤسساتها والقضاء والأجهزة الأمنية والرؤساء والزعماء والمسؤولين والوزراء والنواب..
اليوم، وعلى مسافة أسابيع من الانتخابات النيابية، اللبنانيون المحظيون والمهمشون على حدّ سواء، كلهم معنيون بالتعبير عن رأيهم، وبخلاف الكثير من المحطات التي تكون فيها المنافسة غير متكافئة، فإن الانتخابات النيابية فرصة نادرة يتساوى فيها الجميع للتعبير واختيار من يجدونه الأقرب لتطلعاتهم، ولإيصال رسائل الرفض لمن يعنيهم الأمر. الانتخابات مناسبة لكل من يشعر بالتهميش والظلم والإهمال ليُخرج غضبه وحنقه من خلال الإدلاء بصوته، صوت يكون بمثابة احتجاج على سياسة التهميش والإهمال اللاحق بهم. الانتخابات فرصة على كل من يشعر بالظلم أن يستغلها، وأن يحرّض من حوله لاستغلالها وتوجيه رسالة لمن يعنيهم الأمر، أن الوضع «مش ماشي»، وأن أداء من كانوا في السلطة مرفوض وسيتم السعي لعدم استمراره.
في المهرجانات الانتخابية التي يحشد فيها المرشحون ورؤساء اللوائح مناصريهم فإنهم يدعون للنزول بكثافة يوم الانتخابات للتصويت والاقتراع. كلام المرشحين موجه لمن سينتخب لهم، وليس موجهاً لمن لن تكون وجهة اقتراعهم لمصلحتهم. هم لايدعون للاقتراع بالمطلق، بل يدعون فقط من سيقترعون لهم، أما من سيقترع لجهة أخرى، فإن المرشحين ورؤساء اللوائح يرغبون أن يتقاعس وينكفئ ويبقى في بيته يتابع اليوم الانتخابي على شاشات التلفزيون.
مخطئ من يظن أن الاستحقاق النيابي هو محطة عادية، يقترع اللبنانيون وتتابع الدولة مسارها. فالانتخابات النيابية هي اللبنة الأولى التي تُبنى على أساسها بقية أركان السلطة وتقاسم مغانمها. فالفائزون بكتل نيابية وازنة هم الذين سيشكلون الحكومة ويتقاسمون الحقائب الوزارية. ليس هذا وحسب، بل إنهم من سيتقاسمون التعيينات والتوظيف في مؤسسات الدولة المختلفة، ويتقاسمون تبعية القضاة في المحاكم، وتبعية الضباط في المؤسسات العسكرية، وتبعية السفراء في السفارات، وتبعية المحافظين والمدراء العامين وكبار الموظفين، يتقاسمون كذلك التلزيمات والمناقصات لتنفيذ المشاريع. نتيجة الانتخابات النيابية لاتشكل صورة المجلس النيابي، بل تشكل صورة الدولة لسنوات قادمة، وهنا تكمن أهمية التصويت في الانتخابات، الذي يستهين به البعض.
قد لا يُحدث التصويت النتيجة التي كان يرجوها المهمشون، لكنهم على الأقل يكونون قد قاموا بواجبهم فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، في حين أن الخيار الآخر هو الامتناع عن التصويت، الذي يؤدي لا محالة إلى مزيد من التهميش والظلم والإهمال.