العدد 1391 / 18-12-2019

أكثر من ستين يوماً مرت على التظاهرات في الشارع المطالبة برحيل الطبقة السياسية الفاسدة. خلال هذه الأيام مرت التظاهرات بمحطات ومنعطفات، بعضها شهد تعسّفاً من القوى الأمنية لأسباب غير مفهومة، وبعضها الآخر شهد تساهلاً وغضّ نظر لأسباب غير مفهومة كذلك. بعضها أعطى نموذجاً للاعتراض الحضاري، فشهدت الساحات والشوارع ندوات وحوارات وورش عمل ومحاضرات ومناظرات بين متخاصمين، وبعضها الآخر شهد أعمال عنف وحشية قام بها شبان في مقتبل أعمارهم، قدموا من مناطق مجاورة، فاعتدوا على المتظاهرين بالضرب والتنكيل، وأحرقوا خيمهم، شتموهم وهددوهم، وأطلقوا العنان لحناجرهم بهتافات طائفية سياسية بغيضة.

ستون يوماً مرت ولم يظهر في الأفق نهاية للعقم الذي تشهده البلاد. وقد بات واضحاً أن الطبقة السياسية لا تأخذ ما يجري في الشارع على محمل الجد. وبعض هذه الطبقة عِوض التفكير في الاستجابة لمطالب الناس، يبحث في كيفية استغلال تحركاتهم، لابتزاز خصومه. وليس واضحاً كيف ستنتهي الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها لبنان، فهل سترضخ الطبقة السياسية لمطالب الناس، أم تنجح هذه الطبقة في الالتفاف على المطالب، ويجرون الشارع إلى مواجهات طائفية مذهبية سياسية بعيدة عن المطالب الحقيقية، وصولاً لإجهاض الحراك تحت عنوان الحفاظ على السلم الأهلي؟ من المبكر الإجابة على هذا السؤال لكن في الحالتين، فإن هناك ما يمكن البناء عليه والاستفادة منه في المستقبل أياً كانت نتيجة هذا الحراك.

الجانب الأول الذي يجب أن يدركه اللبنانيون دائماً هو أن المعاناة التي يرزحون تحتها والخناق الاقتصادي الذي يشتد حول رقابهم، هو نتيجة أداء الطبقة السياسية الفاسدة التي أفرزتها نتائج الانتخابات النيابية. استحقاق يستهتر به كثيرون ولا يعطونه الأهمية التي يستحق، فيتقاعسون عن القيام بواجبهم في التصويت في الانتخابات، فيما يسعى البعض الآخر للاستفادة من هذه المناسبة، فيبيع صوته لمرشح لا يعرف عنه شيئاً سوى ورقة المئة دولار التي يعطيه إياها.

الذين يتقاعسون عن الإدلاء بأصواتهم لديهم وجهة نظر، فهم يقولون بأنهم غير مقتنعين بجميع المرشحين، أو أن القانون الانتخابي الذي تجري على أساسه الانتخابات مفصّل لإيصال أطراف محددة للندوة البرلمانية، وهو لن يشارك في هذه المسرحية، أو لأنه منشغل بأموره الشخصية في يوم الانتخاب، أو أنه غير مستعد للوقوف في الطابور أمام القلم الانتخابي للتصويت لمرشح يدرك مسبقاً أنه لن يكون أفضل من سابقيه. أما الذي يبيع صوته فهو أيضاً لديه وجهة نظر. هو يقول بأن النائب الذي سينتخبه سواء كان صالحاً أو طالحاً فإنه لن يتمكن من هزّ المنظومة السياسية التي ينخرها الفساد، لذلك عِوض أن يذهب صوته الانتخابي هدراً، فإنه يبيعه بحفنة دولارات تساعده على تأمين متطلبات منزله. تنتهي الانتخابات وتسفر عن فوز مجموعة من النواب تحدد مصير اللبنانيين لأربعة سنوات قادمة، فتواصل فسادها وسرقاتها ونهب خيرات البلد.

اليوم نتيجة الحراك في الشارع، يفترض أن يكون اللبنانيون قد أدركوا بأن لصوتهم قيمة كبيرة، وأن هذا الصوت هو الذي أوصل الطبقة السياسية لما هي عليه، وهو الذي جعل فاسدين يتحكمون برقابهم. فلا ينخدعوا بعد اليوم بكذب ونفاق السياسيين، وليحرصوا على الإدلاء بصوتهم وانتخاب من يرون فيه الخير.

الجانب الذي يمكن البناء عليه من خلال ما يشهده الشارع، هو أن التظاهرات والاعتصامات والحوارات والإطلالات الكثيفة عبر وسائل الإعلام، أبرزت مجموعة كبيرة من الوجوه والطاقات والكفاءات وأصحاب الأفكار والمقترحات التي كانت مغمورة. ففي السابق حين يُسأل مواطن لما انتخبت فلان وأنت تعرف فساده، كانت الإجابة أنه لايوجد بديل، ومن نعرفه أفضل ممن لا نعرفه، و"جود من الموجود". أما اليوم، فلم يعد للمواطن حجة بعدما كشف حراك الشارع عن مجموعة واسعة من البدائل المقبولة الذين لا ضير من تجربتهم بدل تكرار انتخاب نواب ثبت فسادهم.

طالت الأيام أم قصرت الحراك في الشارع سينتهي، ما سيبقى هو الوعي الذي وصل إليه اللبنانيون، والإرادة الصلبة بالتغيير، والقناعة بأن الطبقة السياسية التي تتحكم بهم ليست قدراً، ويمكن بسهولة الإطاحة بها في صناديق الاقتراع.

أوّاب إبراهيم