العدد 1354 / 20-3-2019
أواب إبراهيم

الاعتداء الدموي الذي نفذه متطرف أسترالي على مسجدين في نيوزيلندا هزّ العالم وأعاد للأذهان مقولات وأفكار كنّا حول قبل وقت قصير نعتبر أنها باتت وراءنا، كالحديث عن صراع الحضارات، وأن العالم عبارة عن فسطاطين فسطاط الحق وفسطاط الباطل، وأنه لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم، وبالتالي ولامفر من مقارعتهم.

هي المرّة الأولى في العصر الحديث التي نشهد فيها جريمة دينية بهذه البشاعة والدموية. سبق ذلك في شهر رمضان عام 1994 بمدينة الخليل بفلسطين أن شهدنا مجزرة الحرم الإبراهيمي، حين دخل يهودي متطرف وأطلق النار على المصلين فاستشهد قرابة ثلاثين مصلياً. لكن مجزرة الحرم حصلت في فلسطين المحتلة التي تعاني أساساً من عدوان إسرائيلي متواصل، ومرتكب الجريمة يهودي متطرف والمعتدى عليهم مسلمون، والصراع بين الطرفين ليس جديداً. كما شهدنا في البوسنة والهرسك عام 1995 مجزرة سربرنيتسا التي راح ضحيتها الآلاف لكن غطاء المجزرة لم يكن دينياً بل سياسياً، واندرجت في سياق الحرب الدائرة آنذاك. أما جريمة مسجدي نيوزيلندا، فكان وقعها مختلفاً، لأنها أولاً حصلت في بلد آمن في منطقة شبه نائية من العالم بعيدة عن الصراعات والخلافات السياسية والدينية، وثانياً حملت طابع الصراع بين المسيحية والإسلام وهذا غير مألوف. ومازاد في حدة وقع المجزرة، هي النقل المباشر الذي قام به الجاني، والكتابات التي شوهدت على الأسلحة التي استخدمها، والتي تفيض كراهية للإسلام والمسلمين.

كمية الحقد التي صاحبت الجاني واجهتها رئيسة وزراء نيوزيلندا بكمية مضاعفة من الودّ والحبّ والتعاطف مع الضحايا وذويهم ومع المسلمين عموماً. صورتان متناقضتان عكست حقيقة البشر, فالجاني بأفكاره الإجرامية والدموية ليس وحده، يشاركه فيها كثيرون حول العالم، ينتمون لجميع الأديان، والأمر نفسه ينطبق على رئيسة الوزراء النيوزيلندية.

هناك إشكالية أخلاقية وإنسانية وقانونية يقع فيها العالم عقب كل حادث مأساوي, فكيف يمكن تحقيق العدالة والإنصاف تجاه الضحايا وذويهم، وما هي العقوبة المناسبة للجاني، وكيف يمكن تحقيق الردع للحيلولة دون تكرار جرائم مشابهة؟ فإذا عوقب الجاني بالعقوبة القصوى التي ينص عليها القانون النيوزيلندي وهي السجن المؤبد، فإن ذلك لن يعيد للضحايا الحياة، ولن يواسي ذويهم، وسيكون قلب المجرم ينبض بعدما أسكت قلوب خمسين من ضحاياه. حتى إذا تم تعديل قوانين العقوبات وتم إعدام الجاني، فهو في النهاية معتوه متطرف ليس لديه ما يخسره، تسيّره أحقاده وكراهيته، بينما الضحايا مدنيون أبرياء، بينهم نساء وأطفال وشيوخ.

الخيار الآخر المتاح إزاء مواجهة جرائم مشابهة هو الصفح والمغفرة والتسامح والتعالي على الجراح. هذا الخيار سينال إعجاب العالم، لكنه من جانب آخر سيكرّس الظلم والغبن بحق الضحايا، والأخطر أنه ربما يشجع مجرمين آخرين كانوا يخشون الانتقام.

الاعتداء على مسجدي نيوزيلندا قدم هدية للبعض , الذين يعتبرون أن مواجهة هذه الاعتداءات لايكون إلا باعتداءات مشابهة، وأن العدوّ لايفهم إلا لغة القوة. وفي هذا الإطار خطّط أسامة بن لادن رحمه الله لتفجيرات 11 أيلول عام 2001 التي تسببت بمقتل آلاف الأميركيين الأبرياء. لكن ما فات بن لادن وأصحابه أن انتقامه للجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة بحق المسلمين تسبب لاحقاً بمقتل عشرات آلاف المسلمين ، بعدما تذرعت الإدارة الأميركية بما حصل لتنفيذ جرائم جديدة في أفغانستان والعراق وعدد من البلدان،ونهب خيرات المنطقة حتى يومنا هذا.

الانتقام لمجزرة نيوزيلندا سيقابله انتقام من الجانب الآخر، والدم سيقابله دم على الضفة الأخرى، وسنقع في دوّامة لاتنتهي من القتل والانتقام. فعلاوة عن أن الإسلام يحرّم الانتقام من أبرياء، فإن المصلحة لن تتحقق في ظلّ حال الضعف والوهن والترهّل التي يعاني منها المسلمون، وستكون فرصة سيتذرع بها الغرب مرة جديدة لقتل المزيد من المسلمين الأبرياء ونهب خيرات بلادهم.

أوّاب إبراهيم