العدد 1443 /30-12-2020

كل فترة تعود إلى الواجهة مطالبات وأصوات تعيد المطالبة بإقرار قانون للزواج المدني في لبنان، باعتباره مدخلاً ضرورياً لإلغاء الطائفية السياسية. أصحاب هذه الطروحات يُهملون حقيقة باتت واضحة وهي أن منظومة الفساد والنهب والاستيلاء على مفاصل السلطة هي منظومة عابرة للأديان والطوائف والمذاهب، تجمعها المصالح وسرقة الملايين والنفوذ والاستحواذ على كل شيء، وأن الذرائع الطائفية التي يرفعها زعماء السلطة ما هي إلا ذريعة لتبرير جشعهم وطمعهم وتشبثهم بالسلطة بداعي الحفاظ على مصالح الطائفة.

من الذرائع أيضاً التي يستند إليها المطالبين بإقرار الزواج المدني هي أن المحاكم الدينية الإسلامية والمسيحية (المعنية بعقود الزواج والطلاق وكل ما يتعلق بهما) أصابها الكثير من الفساد والاهتراء، والتشريعات والقوانين التي تستند إليها في إصدار أحكامها باتت قديمة وبدائية وتحتاج لتطوير وتحديث بما يتلاءم مع متغيرات الحياة والدور الجديد الذي بات يضطلع به الوالدان.

أعود فأقول بأنه لو كانت الدعوة لإقرار الزواج المدني رائجة هذه الأيام وتجد من يصفق لها لما كان من المناسب الحديث عن ضرورة إصلاح المحاكم الشرعية، لأنه حينها سيكون في مصلحة دعاة الزواج المدني الذين يخبئ كثير من المطالبين به بغضاً للدين ومحاولة لعزل الدين عن الحياة. لكن بما أن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تعصف باللبنانيين وتحاصرهم، فإن أحداً لم يجد متسعاً لترف الحديث عن الزواج المدني، وهو تماماً الوقت الذي يكون مناسباً للحديث عن ضرورة وأهمية إصلاح وتحديث المحاكم الدينية، طالما أن هذا الحديث لن يتم استغلاله لمآرب أخرى. كما أن هناك مناسبة أخرى تناولتها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية، تتعلق بحضانة طفل وطفلة (توأم) لم يبلغا 7 سنوات قضت المحكمة الجعفرية بسلبهما من أحضان والدتهما والانتقال لوالدهما الذي يعمل خارج لبنان وهو ذو نفوذ يتبع لمرجعية سياسية كبيرة. الحكم الصادر بلم يكتفِ بسلب الحضانة من الأم لكنه سلبها أيضاً حق رؤية طفليها ما أن الوالد لا يقيم في لبنان. وبما أن المحاكم الجعفرية تعتمد سن 7 سنوات للإناث حتى تنتقل الحضانة للأب، وبما أن الطفلة لم تبلغ هذا العمر، وجد القاضي ضالته باعتماد التقويم الهجري في هذه القضية، رغم أن التقويم الميلادي هو المعتمد في كل قضايا المحاكم الشرعية. لايحتاج الأمر كثير نباهة لإدراك فساد الحكم وانحياز القاضي الشرعي الذي يعمل في محكمة تتبع سياسياً للمرجعية نفسها التي يملك الأب علاقة وثيقة بها.

الحادثة هذه على سبيل المثال لا الحصر، فالفساد بكل أسف أصاب الكثير من قاعات المحاكم الشرعية، سواء كانت على شكل تدخلات سياسية، أو رشى مالية، أو انحياز القضاة. فالانتقادات الموجّهة للمحاكم الشرعية الجعفرية والسنّية تزداد حدتها، والأصوات التي كانت تهمس حول ضعف قضاة شرع وانحياز آخرين باتت اليوم تتحدث بصوت مسموع. ومن غير المناسب التزام من يعنيهم الأمر الصمت وتجاهل ما يجري في هذه المحاكم وإهمال وتطهير وتطوير وتحديث هذه المحاكم. فالمشكلة لا تتعلق فقط بضعف أو فساد بل أيضاً بالحاجة لتحديث القوانين التي تستند إليها هذه المحاكم في إصدار أحكامها. فهذه القوانين ليس قرآناً، بل جاءت بناء على اجتهادات لأئمة مذاهب وعلماء أفاضل يخطئون ويصيبون. والقانون الذي كان يصلح قبل مئة عام قد يكون اليوم نافراً ظالماً لأحد المتقاضين. فهل يُعقل أن يُحرم طفل من والدته بعمر السنتين. لنتجاهل الجانب النفسي والعاطفي الذي سيدمر نفسية الطفل وحياة والدته، كيف سيقوم الوالد برعاية طفل بعمر السنتين.. هل يترك عمله ويتفرغ لإرضاعه وإطعامه ورعايته؟!.

إصلاح المحاكم الشرعية وتطوير قوانينها بات ضرورة ملحّة، وحصول ذلك لن يكون منقصة بل مفخرة لقضاتها والعاملين فيها، وهي خطوة مهمة لاسترجاع ثقة كثيرين بعدما شاب عمل هذه المحاكم الكثير من الأخطاء والعثرات، وسيكون ذلك دحضاً لذريعة المطالبين بالزواج المدني بسبب الأخطاء التي تشهدها المحاكم الشرعية.

أوّاب إبراهيم