العدد 1388 / 27-11-2019

مطالب كثيرة يرفعها المتظاهرون الغاضبون في الشوارع , في الأيام الأولى كان مطلبهم استقالة الحكومة، بعد الاستقالة صار مطلبهم تشكيل حكومة (تكنوقراط) من أشخاص اختصاصيين مشهود لهم بالكفاءة ونظافة الكف والنزاهة، واشترط الشارع أن لايكون لهذه الحكومة علاقة بالأحزاب السياسية.

سأفترض أن الأحزاب السياسية سترضخ لمطلب الشارع وستلبي طلبهم بالموافقة على تشكيل حكومة اختصاصيين، وسأفترض كذلك أن هذه الموافقة ستمتد إلى منح الحكومة الثقة في مجلس النواب الذي تهيمن عليه الأحزاب السياسية، وأيضاً سأفترض أن هذه الأحزاب سهّلت صياغة البيان الوزاري ووافقت عليه، لكن ماذا عن اللبنانيين الذين ينتمون ويؤيدون الأحزاب السياسية، ألا يحق لهؤلاء أن يكون لهم صوت. أليسوا هم الأغلبية الساحقة التي أفرزتها الانتخابات النيابية؟ ربّ قائل بأن هذه الأغلبية مزوّرة لأن القوى السياسية نسجت قانوناً انتخابياً على قياسها، ربما يكون ذلك صحيحاً، ولكن ألا يشكل ناخبو الأحزاب شريحة وازنة في هذا البلد ويستحقون تمثيلهم في الحكومة وأن يكون لهم رأي فيها؟ أم أن الديمقراطية برأي الثوار أن يستأثروا وحدهم بكل شيء؟!.

أمر آخر، من قال أن الاختصاصيين الذين لاعلاقة لهم بالأحزاب هم ليسوا فاسدين. فالطبقة السياسية لاتعمل وحدها، فهي تعمل مع طبقة واسعة من الاختصاصيين الذين يشكلون أدواتها لممارسة فسادها، سواء في الإدارات العامة أو في القطاع الخاص أو حتى في النقابات المختلفة. والسياسي لايستطيع وحده أن يمارس فساده إن لم يكون هناك منتفعون من حوله يساعدونه في القيام بسرقاته ويغضّون الطرف عنها. وبالتالي هناك منظومة متكاملة من الفاسدين يشكل الاختصاصيون جزءاً أساسياً منها. لذلك لا تكفي المطالبة بحكومة اختصاصيين من غير السياسيين، المطلوب هو وزراء ونواب وموظفو إدارة عامة ونقابات مهن حرة ورجال أعمال ومصرفيين من الشرفاء النزيهين سواء كانوا ينتمون للسياسيين أو لا.

إلى جانب الفساد المستشري في لبنان هناك أزمة اقتصادية حقيقية يعاني منها، ولم يعد تهويلاً القول بأن الاقتصاد على شفير الانهيار، وهذا لن يمنعه تشكيل حكومة جديدة من شخصيات كفوءة ونزيهة. فالأزمة الاقتصادية ليست فقط بسبب الفساد والسرقة والنهب والمحسوبيات، بل أيضاً بسبب سياسات خاطئة تمّ اتباعها على مدى العقود الماضية، إضافة لضعف الموارد في مقابل ارتفاع المصاريف، وهو ما يُطلق عليه خلل في ميزان المدفوعات. لذلك، على الشارع المتفائل أن يدرك بأن تشكيل حكومة من الاختصاصيين النزيهين "لن يشيل الزير من البير". فتشكيل الحكومة هي بداية مسار طويل من العمل الشاق والدؤوب لانتشال الاقتصاد من الوضع الذي هو عليه. وهي خطوة أولى يجب أن تستبع خطوات كثيرة للبدء بالخروج من الأزمة التي يعاني منها اللبنانيون، وبالتالي فان استعجال النتائج لن يعود إلا بالإحباط والخيبة على الشارع.

مايجب أن يدركه المتظاهرون وكل اللبنانيين، هو أن نمط الحياة الذي كانوا يعيشونه ذهب إلى غير رجعة، وأن "الفشخرة" اللبنانية باتت جزءاً من الماضي. فلن يكون الجميع قادرين أن يكون لهم سيارتين وثلاث سيارات للمنزل الواحد، ولن تعود العاملة المنزلية حاجة ضرورية، ولن يعود السفر كل عام للسياحة مقدور عليه، ولن يكون الذهاب إلى المطعم نهاية كل أسبوع أمراً متاحاً للجميع. هناك ضائقة معيشية حقيقية يعاني منها لبنان، ولن ينفع الاكتفاء باتهام السلطة بالفساد والسرقة للخروج من هذه الضائقة، فالتعايش مع هذه الأزمة أمر أساسي، مع ما يعنيه ذلك من ربط للأحزمة.

يبقى أمران مهمان وأساسيان إذا تحققا يكون إنجازاً حقيقياً وفعلياً للشارع ويمكن البناء عليه. الأول هو أن يعي اللبنانيون فعلاً لخياراتهم، وأن يدركوا أهمية صوتهم في الانتخابات، وأن الزعيم الذي ينساقون وراءه ويبيعون صوتهم لهم هو المسؤول عما هم فيه. عليهم أن يظلوا مدركين أن بقاءهم ليس مرتبطاً بزعيم طائفتهم. الأمر الآخر الذي على الشارع التمسك به هو إقرار قانون انتخابي عادل وشفاف يمثّل أوسع شريحة من اللبنانيين، وهذا هو المدخل الأساسي للتغيير والذي من خلاله يمكن تغيير كل الطبقة السياسية الفاسدة.

أوّاب إبراهيم