العدد 1420 / 8-7-2020
د. وائل نجم

يعيش أغلب اللبنانيين، أفراداً أو مجموعات ومكوّنات، حالة من الهاجس الدائم، والقلق المريب، والخوف من الآخر ومن الآتي من الأيام. بمعنى آخر، حالة من الشكّ التي لا تنتهي وتجعل الإنسان يعيش دوّامة من الأزمات التي ما إن تنتهي واحدة حتى تستولد أخرى، وهكذا دواليك دون أن يشعر بحالة من الأمن أو الاستقرار أو الهدوء.

ويكاد البلد يختنق بهذه الحالة التي تجعل كل فرد في متراس مقابل لأي فرد آخر, حتى لو كان قريبه أو صديقه أو زميله أو ابن قريته أو حارته أو حيّه. كما تجعل كل مكوّن من مكوّنات لبنان التاريخية في مقابل المكوّن الآخر الذي يتخيّله وحشاً يريد أن يفترسه أو يقتلعه من جذوره.

والحقيقة هذه مأساة حقيقية نعيشها في لبنان وتجعلنا نعيش على الدوام معها حالة من عدم الاستقرار على المستويات كافة.

فعلى مستوى المكوّنات الوطنية نجد أنّ الجميع لديه هواجس وقلق من غيره المقابل. ولديه شعور بالاستهداف يكبر وينمو مع السياسات التي تعتمدها الفئة المتحكّمة بقرار البلد – وهي بالمناسبة تنتمي وتتوزّع على المكوّنات كافة- والتي تريد من خلالها الاحتفاظ بالهيمنة والقرار تحت عنوان الحفاظ على التواجد في حين أنّ الحقيقة في هذا الأمر هي في الحفاظ على التفرّد بالقرار على مستوى المكوّن.

وإذا أردنا أن نتوسّع أكثر في مقاربة هذه المسألة التي تعيق أية عملية نهوض أو خروج من الأزمة, نجد أنّ المسيحيين لديهم هاجس الذوبان أو فقدان كل شيء في البلد والرحيل عنه من ناحية، واستعادة صلاحيات أو دور تاريخي من ناحية ثانية، ويتم بعد ذلك بناء التصوّرات والقناعات والعلاقات انطلاقاً من هذا الحساب، ويتمّ ممارسة السياسات لتحقيق هذه التصوّرات المتخيّلة، وهو بدوره يزيد من هواجس الآخرين وتوهّمهم، وبالتالي من التقوقع والشعور بالاستهداف والإلغاء.

على المقلب الآخر نجد أن الشيعة يعيشون حالة من الهواجس الأخرى المتخيّلة أو المتوّهمة أيضاً على الرغم من امتلاكهم السلاح دون غيرهم من المكوّنات الأخرى، وهم يعيشون حالة قلق دائم من الحديث عن الاستهداف الداخلي أو الخارجي، وحالة قلق من العودة إلى الماضي الذي كانوا يشعرون فيه بالاستضعاف. هي عقدة الاستضعاف لم يخرجوا منها بعد على الرغم من امتلاك كل أسباب القوّة. وهذا أيضاً يعيق أية عملية تفاهم جدّية مع المكوّنات الأخرى، ويولّد من جديد شعوراً لدى الآخرين بالقلق والخوف والاستهداف.

في المقلب الثالث نجد أنّ المسلمين السنّة يعيشون أيضاً حالة من القلق والخوف والاستهداف الدائم. هم يشعرون أنّ هناك محاولات داخلية وخارجية تريد النيل منهم ومن دورهم التاريخي في لبنان والمنطقة، ويؤثر هذا الشعور المتولّد على علاقتهم بالمكوّنات الأخرى، حتى باتوا يشعرون أنّهم فئة قليلة وتكاد تنقرض علماً أنّ الشعور الدائم الذي كان يحكم أداءهم أنهم الأمة التي تستوعب الجميع في المنطقة. وقد دفع هذا الشعور المتولّد لدى المسلمين السنّة إلى نوع من التقوقع الذي لم يكن معهوداً، والانعزال الذي لم يكن ملحوظاً، بل نوع من العدائية مع المكوّنات الأخرى، وهو بدوره ما جعل الآخرين يتوهّمون صدق المشاعر التي تنتابهم.

وكذلك الدروز الذين كانوا يغلّبون منطق القلق والخوف على التواجد، خاصة وأنّهم يعتبرون أنفسهم اقلية في محيط متلاطم ومتصارع، ويؤثر هذا الشعور أيضاً عليهم وعلى علاقتهم مع شركائهم في الوطن.

قد يبدو هذا الخوف وهذه الهواجس مشروعة للوهلة الأولى، خاصة عند إجراء مقارنات للتصرّفات والأفعال والسياسات، غير أنّ الحقيقة أنّ هذه الهواجس مكبّرة ومضخّمة وهناك من يستفيد منها ويغذّيها، ليس من أجل الحفاظ على المكوّن أو على دوره وتواجده، بل من أجل الاحتفاظ بآحادية القرار فيه. إنّه نوع من الإقطاع الذكي الذي يصادر فيه أولئك الذين يتصدّرون المشهد قرار المكوّن ويحتكرونه لهم ولورثتهم من خلال إطلاق العنان للخوف وتنمية مشاعر الاستهداف وما إلى ذلك.

آن للبنانيين في ظل الأزمة المتفاقمة والمستفحلة والتي تأكل الأخضر واليابس, وتأكل معهما مستقبل البلد ومستقبل أبنائهم أن يعرفوا أنّ الحلّ لكل هذه الأزمات، وللشعور بالطمأنينة والخروج من حالات القلق والخوف والاستهداف هو في بناء دولة حقيقية تقوم على أساس المواطنية الحقّة التي لا تفرّق بين مواطن ومواطن، وتعتمد المعايير التي تجعل الجميع يشعرون بالأمن والراحة وذلك من خلال منظومة قضائية عادلة، ورقابة تضع حدّاً للفساد الذي يتلطّى خلف مشاعر الخوف والاستهداف.