وائل نجم

 الجلسة الأخيرة للحكومة التي انعقدت يوم الاربعاء الماضي حضر فيها وقبلها الحديث عن إعادة النظر بآلية التعيينات في الوظائف العامة للدولة. كانت هذه الفكرة محل خلاف كبير وتجاذب غير معلن بشكل واضح بين بعض المكوّنات الحكومية على خلفيات متعددة. وليس بالضرورة على خلفية الحفاظ على الدولة والمؤسسات والشفافية والنزاهة والكفاءة، إنما ربما لأن إعادة النظر بآلية التوظيف والتعييينات قد تجعل البعض يفقد بعض الخاصيات التي جعلته وتجعله مفوّضاً مطلقاً في رسم ما يريد بفعل أمور كثيرة من بينها الهيمنة على قرار البلد. إلا أن البعض الآخر الذي يطرح موضوع إعادة النظر بآلية التعيينات إنما يطرحها ليس من زاوية الحفاظ على الدولة والمؤسسات بل من جهة الحسابات الطائفية البغيضة، على الرغم من أن خطاب أولئك يشدد دائماً على بناء دولة المؤسسات والخروج من منطق المحسوبيات الطائفية والمذهبية. وقد شدد رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، على رفضه إعادة النظر بآلية التعييات واعتبر أن مجلس الخدمة المدنية، وهو مؤسسة حكومية، هو المخوّل اتخاذ ما يلزم من قرارات بهذا الخصوص.
وعلى مسافة أيام قليلة من التجاذب على آلية التعيينات كانت قوى سياسية وحزبية وحتى مرجعيات دينية تعترض عبر وسائل الإعلام وفي الشارع وفي الصالونات السياسية على تعيين مدير لمعهد العلوم الاجتماعية في البقاع بحجة أن الموقع الذي شغر بفعل تقاعد المدير الذي كان يشغله، وهو من طائفة معيّنة، انتقل إلى مدير آخر من طائفة أخرى، علماً أن الشروط القانونية والمهنية لهذا الموقع لا تتوافر في هذا الفرع من المعهد إلا عند الشخص الذي تمّ تعيينه في الموقع، وبالتالي لم يكن الموضوع خروجاً عن نصَ قانوني ولا عن عرف، ولا شكّل تجاوزاً للمهنية التي تعتبر معياراً أساسياً، وهو ما حدا مكوّنات أخرى وقوى طلابية وسياسية أخرى إلى التحرك، وإلى التلويح باستخدام الشارع، وحتى اللغة الطائفية التي استخدمت للتعبير عن رفض تعيين موظف في موقع هو حق له أو لغيره من اللبنانيين الذين تتوافر فيهم الشروط اللازمة لملء هذا الموقع.
والحقيقة أن «اتفاق الطائف» الذي وضع حداً للحرب الأهلية، وأدخل تعديلات نسبية على الدستور والقوانين أراد أن يكرّس المساواة بين المواطنين من ضمن إطار حفظ حقوق المكوّنات، فأكد الهوية الطائفية والمذهبية لبعض المواقع ( رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس النواب، رئاسة الحكومة) والمناصفة والمداورة في موظفي الفئة الأولى، والتخلّي عن القاعدة التي كان معمولاً بها سابقاً في الوظائف الأخرى لجهة تقاسمها بالتساوي أو التوازي أو جعل بعض المواقع، الأدارية محميّات لمكوّن من المكوّنات دون مكوّن آخر. وبالتالي فإن الحديث عن محاصصة تقوم على الطائفية والمذهبية في الادارات والوظائف العامة ليس من الدستور والقانون بشيء، لذلك لا سند قانونياً ولا دستورياً لأي حديث عن هذا الموضوع، إنما البعض يريد أن يكرّس أعرافاً في الادارة كانت سابقاً سبباً أساسياً في إشعال الفتن بين اللبنانيين. ولكن المطلوب لخروج لبنان من هذه الدوّامة الذهاب نحو إلغاء الطائفية السياسية وبناء دولة المواطن والمؤسسات الحقيقية، وهو ما أكده وشدّد عليه «اتفاق الطائف». وبالتالي إن القوى السياسية والحزبية والمراجع التي أثارت زوبعة حول ملف تعيين مدير لمعهد جامعي هنا أو أية وظيفة أخرى هناك، إنما تثير في نفوس اللبنانيين زوبعة جديدة من التموضعات التي لا تخدم مسيرة بناء الوطن.
ثمّ إن الحديث عن مواقع حصرية لهذه الطائفة أو تلك يقود إلى فتح هذا الملف بشكل كامل أفقياً وعمودياً، مع مفعول رجعي له، بحيث تُجرى جردة سريعة على الوظائف التي حصلت المداورة فيها بين الموظفين ليصار إلى إعادة توزيع هذه الوظائف وفقاً لحسبة التوزيع الطائفي والمذهبي، وهذا أمر غير منطقي على الإطلاق، فضلاً عن أنه يضرب فكرة الانتماء الوطني، ويعزز مفهوم الانتماء الطائفي والمذهبي، وبالتالي يكرّس مزيداً من الانقسام الطائفي في البلد، بل ويهدد لاحقاً بمزيد من الشحن الذي قد يكون مقدمة لفتنة كبيرة تصيب الجميع بالخسران.
من الواضح أن هناك خطاباً وتصرفاً فئوياً وضيقاً وطائفياً عند بعض العديد من الاطراف في البلد يشكّل معوّقاً أمام الانتقال من نظام المحاصصة والزبائنية إلى دولة المؤسسات والقانون، ولعلّ خروج أغلب القوى السياسية من هذا المنطق، والتخلّي عن الاستنسابية والمحاصصة واللغة الفئوية، والتعامل بمنطق المساواة بين اللبنانيين وحده الكفيل بالارتقاء بالبلد إلى حالة أفضل تكون مقدمة للخلاص من الازمات المتراكمة والموروثة.}