وائل نجم -كاتب وباحث

قبل بضعة أعوام أعلنت وزارة الطاقة اللبنانية اكتشاف كميات كبيرة من حقول النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية قبالة السواحل الشمالية والجنوبية، وقدّرت كمية الغاز المكتشفة قبالة السواحل الشمالية بـ 15 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، فيما قدّرت كمية الغاز قبالة السواحل الجنوبية بـ 12 تريليون قدم مكعب، وكمية السوائل النفطية قبالة السواحل اللبنانية بنحو 440 مليون برميل نفط، يمكن أن تصل إلى 650 مليون برميل، وذلك بحسب المسوحات التي أجرتها شركات متخصصة بالمسح والبحث عن الطاقة.
يومها استبشر اللبنانيون خيراً بهذه الموارد الجديدة التي أملوا أن تخرج لبنان من الأزمة المالية التي يعنيها، ومن الديون المتراكمة عليه جراء سياسة القروض التي اعتمدتها الحكومات السابقة والتي جعلت الدين العام يقفز فوق مستوى الستين مليار دولار، وهو رقم يزداد سنوياً بالنظر إلى ما يعرف في عالم المال والاقتصاد بـ«خدمة الدين» أي الفوائد التي تجنيها الجهات الدائنة من الجهات المدينة على القروض المقدمة، وهي بالطبع ما تجعل الدول أسيرة الجهات التي تقرضها المال من أجل إطلاق مشاريع أولاً، ومن ثم يتحوّل الأمر لاحقاً إلى خدمة هذه القروض.
وبغض النظر عن تلك السياسة التي اتبعت في خلال السنوات والعقود الماضية، فإن اكتشاف النفط والغاز في المياه الاقليمية مثّل بارقة أمل للخروج من نفق الأزمة المالية، وبالتالي تحسّن الوضع المالي والاقتصادي للبنان واللبنانيين، ولكنها « يا فرحة ما تمّت» كما يقول المثل اللبناني العامي. فمنذ تلك السنوات التي حصل فيها الاكتشاف، وإلى الآن لم يشرع لبنان في العمل للإفادة من هذا الاكتشاف، ومن هذا المخزون النفطي والغازي الهائل، وذلك نظراً إلى كثير من الاعتبارات التي تركت جزءاً من هذه الثروة النفطية الغازية نهباً لأطراف إقليمية مجاورة، سواء في كيان الاحتلال الاسرائيلي الذي بدأ عمليات تصدير الغاز، أو لدولة قبرص المجاورة.
الاعتبارات التي حالت إلى اليوم في تأخير الافادة من هذه الثروة منها داخلي له علاقة بالوضع اللبناني، ومنها ما له علاقة بالخارج، سواء على المستوى الدولي وما تمثله شركات الانتاج العالمية من اخطبوط يتحكم بكل مفاصل هذا القطاع، أو على المستوى الاقليمي والنزاع المعلن أو غير المعلن على حدود هذه الحقول النفطية.
بالنسبة إلى الوضع الداخلي برزت مسألة المحاصصة السياسية بشكل غير مباشر من خلال العمل لاحتكار هذه القطاع عبر شركات يكون للاطراف السياسية اللبنانية حصة وافرة فيها. بمعنى آخر، أن تكون الاطراف السياسية الفاعلة شريكة حقيقية وفعلية مع الشركات العالمية المتخصصة بالعمل في هذا القطاع، وذلك حتى تتوافر لهذه الاطراف السياسية مصادر تمويل جديدة تبقيها ممسكة بتلابيب القرار اللبناني، وتستغني عن المساعدات التي تردها من الخارج، خاصة في ظل تراجع تلك المساعدات بالنظر إلى تراجع أسعار النفط وزيادة حجم الانفاق في القطاعات كافة عند الدول التي كانت تقدّم تلك المساعدات.
لقد اختلفت هذه الاطراف السياسية على تشكيل «الهيئة الوطنية لإدارة ملف النفط والغاز»، وظل الخلاف على الهيئة فترة من الزمن، حتى جرى التوصل بعد فترة من الوقت إلى تشكيل هذه الهيئة وفقاً لنظام محاصصة طائفي ومذهبي بعيداً عن كل تفكير بالمصلحة الوطنية. ثم بعد ذلك بدأ نزاع من نوع آخر حول طبيعة الشركات التي يمكن أن تلزّم التنقيب واستخراج النفط، وهو نزاع وتنافس ما زال قائماً، وإن بات هناك ما يشبه الاتفاق على الخطوط العريضة على هذا الموضوع، بحيث تحصر في ثلاث شركات موزّعة، بصورة غير مباشرة، توزيعاً سياسياً وطائفياً. كذلك أخذ النزاع حول الملف شكلاً آخر، ففي وقت طالبت أطراف سياسية بفتح كافة ما يُسمّى «البلوكات»، أو طرحها للتلزيم دفعة واحدة، طالبت أطراف سياسية أخرى بفتح أو تلزيم «ثلاثة بلوكات من أصل عشرة» بحجة حفظ حقوق الاجيال القادمة. وتحت عنوان هذا النزاع ظل الملف جامداً ومقفلاً طوال فترة السنوات الماضية، وصولاً إلى الاتفاق الذي أُعلن قبل أيام بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ورئيس التيار الوطني الحرّ الوزير جبران باسيل، وهو اتفاق، وإن رحّبت به العديد من القوى والاطراف السياسية، إلا أنه أثار مخاوف جدّية عند كثير من الأطراف من احتكار هذا القطاع من قبل هذين المكونين السياسيين، خاصة أن الاتفاق أبرم خارج مؤسسات الدولة (الحكومة) التي كانت بعيدة كل البعد عن مضمون هذا الاتفاق، وهذه إشكالية أخرى لا تقلّ أهمية أو خطورة عن احتكار ملف النفط، إذ إنها تهمّش مؤسسات الدولة وتجعل من الاتفاقات الثنائية بديلاً لإدارة البلاد.
أما بالنسبة إلى المعطى الخارجي الذي أخّر الإفادة من هذه الثروة، فيبرز موضوع الشركات العالمية التي لا تحبّذ المغامرة في مثل هذه المناطق التي تكون محل نزاع أو لم تصل فيها الأطراف المعنية إلى ترسيم الحدود (كما في حالة لبنان مع كيان الاحتلال وقبرص)، وكذلك الاطماع الإسرائيلية التي تفضّل الإفادة الفردية من هذه الثروة أكبر وقت ممكن قبل الاتفاق مع الاطراف الأخرى.
ما يهمّنا في هذا الموضوع، أن التأخير الذي يصيب هذا الملف يجعل لبنان يخسر الكثير من قيمة هذه الثروة. ففي الوقت الذي اكتُشفت فيه هذه الحقول كانت أسعار النفط أفضل من الاسعار الموجودة حالياً، حيث تراجعت أسعار النفط إلى حدود كبيرة، فضلاً عن شروع الدول الأخرى في استثمار حصتها من الحقول المتداخلة، وتبقى ضرورة أن يخرج المسؤولون عندنا من منطق المحاصصة والتوظيف السياسي لهذه القطاعات الواعدة إلى منطق المصلحة الوطنية التي تحفظ حق الجميع وتحفظ لبنان دولة واحدة لكل أبنائه دون تفريق أو نزاع.