العدد 1422 / 22-7-2020
رندة حيدر

يخوض اللبنانيون اليوم ثلاث معارك مصيرية حادّة وحامية الوطيس: الأولى مالية شرسة، بين ما بات يعرف باسم "حزب المصرف"، وهو التكتل الذي يجمع مصرف لبنان والمصارف المحلية والطبقة السياسية المستفيدة منها، ومن جهة ثانية، البنك الدولي الرافض مقاربة هذا الفريق، ويؤيد خطة التعافي التي قدّمتها الحكومة الحالية، برئاسة حسان دياب، للخروج من الأزمة المالية. المعركة الثانية سياسية، لا تقل شراسةً عن الأولى، تدور بين محور الممانعة برئاسة حزب الله وحلفائه اللبنانيين المدعومين من إيران ومحور الولايات المتحدة وحلفائها الداخليين والخارجيين الذين يحاولون، بشتى الوسائل، حشر حزب الله، مستغلين الأزمة المعيشية الخانقة، لتحميله وحده الأزمة دون غيره، وإجباره على التنحّي جانباً. المعركة الثالثة فتحها أخيرا البطريرك الماروني، بطرس الراعي، من خلال دعوته إلى حياد لبنان، ما أثار جدلاً واسعاً بين السياسيين اللبنانيين وأحيا خلافات قديمةً جديدةً بشأن هوية لبنان، والانقسام بين المدافعين عن هوية لبنان المقاوم لإسرائيل بفضل تضحيات حزب الله والمطالبين بضرورة تحييد لبنان عن النزاعات الإقليمية وصراع المحاور في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها البلد.

تداعيات المعركة الأولى يدفع ثمنها كل الشعب اللبناني يومياً من خلال الارتفاع الجنوني في الأسعار، والتقلبات المخيفة في السوق السوداء لسعر صرف الدولار، وبطالة مستشرية، وفقر مدقع. يعيش اللبنانيون على وقع الانهيار المستمر لكل دعائم الحياة الكريمة، من دون أن يحميهم أحد. والمسؤول الأول والأخير عن المأساة هو المنظومة السياسية الحاكمة الفاسدة، وجشع المصارف وتلكؤ المصرف المركزي عن القيام بدوره في حماية العملة المحلية.

المعركة السياسية الدائرة بين حزب الله والولايات المتحدة في لبنان اليوم ليست جديدة، بل هي استمرار لصراع يدور منذ سنوات، وهي من أشكال صراع مثلثٍ يدور بين الولايات المتحدة وإيران، وبين حزب الله وإسرائيل، وبين إيران وإسرائيل. لكن منذ تشكيل حكومة حسان دياب اتخذ هذا الصراع منحىً تصاعدياً خطيراً، فاقمه تطبيق قانون قيصر، وساهمت في تظهيره الأزمة المالية الصعبة. في الفترة الأخيرة، يحاول الأميركيون، من خلال تصريحات سفيرتهم في لبنان أو من خلال تصريحات كبار مسؤوليهم، تحميل حزب الله المسؤولية الكاملة عن أزمة لبنان المالية والاقتصادية، وتحريض الناس عليه، بينما في الواقع المسؤول الأول والأخير عن الأزمة المالية هو سياسة الاستدانة التي لجأت إليها الحكومات اللبنانية المتعاقبة، والفساد الحكومي، وتواطؤ المصرف المركزي مع الطبقة السياسية الحاكمة على تغطية عجزها وديونها، بالإضافة إلى الدور المدمر الذي لعبته المصارف اللبنانية في هذا كله. ومن هنا، إن تحميل الأميركيين المسؤولية لحزب الله وحده افتئات، ولكن هذا لا يعفي الحزب من تحمّله مسؤولية السكوت على ما يجري طوال السنوات الماضية، وتلكؤه اليوم عن كشف فساد المنظومة السياسية. صحيحٌ أن التدخل العسكري لحزب الله في سورية واليمن والعراق أثار عداواتٍ عربية ضد لبنان، وخطابات نصر الله الهجومية ضد السعودية دفع ثمنها آلاف اللبنانيين الذين صرفوا من أعمالهم في المملكة وفي دول الخليج جرّاء هذه المواقف، لكن مشكلة لبنان المالية ليست ناجمةً تحديداً عن الحزب.

يدفع الشعب اللبناني أيضاً أثمان معركة الولايات المتحدة ضد حزب الله، من خلال زعزعة استقراره الهش، وازدياد حدّة أجواء الاستقطاب والتناحر بين اللبنانيين. ويعيق هذا الوضع أي عملية محاسبة موضوعية لأداء الحكومة المدعومه من حزب الله، ويساهم في استغلال الحزب وحلفائه الهجمة الأميركية عليه في الداخل اللبناني، لإسكات كل أصوات الانتقاد المحقة الموجهة ضد أدائها وإخفاقاتها.

قد يتضح لاحقاً أن حكومة دياب تخوض مغامرة مؤلمة وباهظة الثمن، وربما فاشلة، أخفق من خلالها الحزب في معالجة الملفات اللبنانية الشائكة، والشديدة التعقيد، لا سيما في هذه المرحلة المصيرية من الانهيار المالي والمصرفي. إذ على الرغم من التجربة السياسية للحزب، من خلال تمثيله في البرلمان اللبناني منذ سنوات، فإن خبرة الحزب الأساسية عسكرية استراتيجية، وليست سياسية اقتصادية. لقد استطاع حزب الله أن يخوض حرب تموز 2006، مع كل آثارها المدمرة، من دون أن يتحمّل تبعة (ومسؤولية) التدمير الذي لحق بالبشر والحجر، ومن دون أن يدفع الكلفة الباهظة لإعادة إعمار ما تدمر. والتركيبة السياسية التي كانت سائدة في لبنان هي التي أتاحت للحزب هذا كله.

تغيرت ظروف لبنان اليوم، كما تغيرت الظروف في العالم العربي والعالم كله. ليس لبنان وحده في مهبّ العاصفة، بل سورية والعراق وليبيا واليمن أيضا. في خضم تغيرات تكوينية من هذا النوع، تبدو تجربة حكومة حزب الله أكثر من مخيّبة، والأخطر أنه، حتى كتابة هذه السطور، لا يوجد بديل عنها، على الرغم من كل الضجيج الأميركي والغربي بشأن ضرورة إجراء تغيير حكومي. لذا سيبقى لبنان على الأرجح في مواجهة مع العواصف الهوجاء التي تعصف به من كل صوب.