العدد 1386 / 13-11-2019

د. وائل نجم

لطالما كان رئيس الجمهورية يخاطب الشعب اللبناني، أو أنصاره في فترة ماضية، خاصة عندما كان يشغل منصب "رئيس الحكومة العسكرية" في نهاية العام 1988 وكان يدير جزءاً من البلد حينها من قصر بعبدا؛ كان يحلو للرئيس أن يخاطب أنصاره الذين كانوا يتوافدون يومياً إلى القصر لحمايته وإظهار التأييد الشعبي له، كان يخاطبهم : "يا شعب لبنان العظيم". حتى أنه في الأسبوعين الأخيرين عندما احتشد أنصار التيار الوطني الحر على طريق القصر الجمهوري مؤيدين له، وهم جزء من الشعب، أعاد استخدام عبارته المحببة "يا شعب لبنان العظيم".

ليلة الثلاثاء وفي إطلالة فخامة الرئيس في حوار تلفزيوني محدد، وقد تمّت الاعدادات له بشكل كبير، وبعد قرابة الشهر على الانتفاضة الشعبية التي رفعت مطلب رحيل الطبقة السياسية، وتشكيل حكومة كفاءات تدير المرحلة للخروج من الأزمة، انتظر الشعب العظيم من الرئيس أن يقدّم حلاًّ أو يطرح مخرجاً من الأزمة، أو أن يتراجع خطوة إلى الوراء لإنقاذ الوضع الذي بات ينذر بمخاطر كبيرة على المستويات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية وغيرها. انتظر الشعب العظيم الذي خرج بالملايين، أو بمئات الآلاف إلى الطرقات والساحات بطريقة سلمية حضارية ولمدة أربعة أسابيع متواصلة دون ملل أو كلل أو تراجع، وأصر على الحلول التي تخرج من الأزمة، وقَبِل أن يتراجع عن مطلب رحيل العهد والطبقة السياسية إلى مطلب تشكيل حكومة كفاءات، إلا أن الرئيس، للأسف، لم يعر أذناً لكل المطالب، ولم يبدِ اهتماماً لكل التحركات وكل هذا الصراخ المعبّر عن حالة الغضب ومستوى ما بلغته الأمور، بل على العكس من ذلك فقد أشعل فتيل الأزمة من جديد، وألهب الشارع من خلال مطالبته المتظاهرين بالعودة إلى منازلهم وإعطاء فرصة جديدة لمعالجة الأزمة، ملقياً باللائمة على النظام السياسي القائم على التوافق والذي "يعيق" الاصلاحات، في وقت لا يراعي هو نفسه هذا النظام، ولعلّ المسألة المتصلة بإجراء الاستشارات النيابية الملزمة وتأخيرها خير دليل على إطاحة الدستور وتعميق الأزمة، بل والانحدار بها نحو المجهول.

لقد انتظر الشعب العظيم من رئيس البلاد أن يعلن موعداً لإجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية شخصية تؤلّف الحكومة، على اعتبار أن ذلك قد يشكّل المدخل للحلّ المنشود، إلاّ أنه للأسف تجاهل هذا الأمر، وفضّل تعطيل هذا الاستحقاق الدستوري، على اعتبار أنه لا نصّ في الدستور يقيّد الرئيس بمهلة لإجراء هذه الاستشارات، وبالتالي فإنه وأمام هذه الأزمة وعلى خطورتها، ركن إلى الانتظار والتريّث حتى يضمن لصهره، مدلل القصر، مقعداً وزارياً حتى لو كان ثمن ذلك خراب البلد، وهو ما أشار إليه صاحب الفخامة عندما ألمح ضمناً إلى رفض تشكيل حكومة كفاءات، بل الإصرار على حكومة مختلطة على قاعدة المحاصصة الحزبية، وأن يضمن لصهره مقعداً وزارياً فيها.

أما الطامة الكبرى التي ألهبت الشارع ودفعت الناس إلى الانتفاضة من جديد واللجوء إلى قطع الطرقات وسقوط الضحايا (علاء أبو فخر في خلدة) فقد كانت دعوة الرئيس الشعب العظيم إلى الرحيل والهجرة من البلد إذا كانوا لا يقتنعون بأي أحد "آدمي" في الدولة. وببساطة يا فخامة الرئيس فإن ما وصلت إليه البلاد والعباد، وحجم الفساد والسرقة التي يتحدث المسؤولين عنها ويتهمون بعضهم بها، والتي تكدّست مئات بل ربما آلاف الملفات منها على طاولة القضاء، جعلت الشعب العظيم لا يؤمن بأي "آدمي" بالدولة، وربما يكون موجوداً، ولكن من حقهم أن يرفضوا، وأن لا يقتنعوا، وأن لا يعطوا أية فرصة جديدة لأي مسؤول، فالتجربة علّمتهم أن الوعود غالباً إن لم يكن دائماً تكون كاذبة، ومحاولة للهروب من المسؤولية والواجب، وبالتالي من المستغرب أن يتم الطلب من هذا الشعب العظيم أن يعود إلى بيته، وأن ينخدع مرّة أخرى وثانية. أما طلب الرحيل والهجرة، فلم يعد مع الشعب العظيم ولا في جيوبه ما يساعده على الرحيل والهجرة من هذا البلد، بل ربما في جيوب المسؤولين، ((كلن))، ما يساعدهم على الرحيل والهجرة إلى الخارج ليعيشوا هناك في باريس أو غيرها بهدوء تام بعيداً عن صخب هذا الشعب العظيم الذي خرج مطالباً بحقوقه وكرامته ولقمة عيشه، ولن يعود قبل أن يتحقق له ذلك، وبإمكان أي مسؤول منزعج من تحركات الشعب العظيم أن يبادر إلى الرحيل ويكون بذلك قد أسدى لنفسه وللشعب العظيم خدمة كبيرة تختصر المسافة إلى بناء وطن الإنسان بعيداً عن كل مظاهر الفساد والمحاصصة والاستئثار.