العدد 1689 /12-11-2025

رندة حيدر

بعد مرور عام على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان الذي أنهى المواجهات العسكرية مع حزب الله، وبعد مرور أكثر من شهر على وقف إطلاق النار في غزّة الذي فرضه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مُوقِفاً حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على القطاع منذ عامَيْن، يبدو واضحاً اليوم الصعوبة التي تواجهها إسرائيل في توظيف مآلات حربها على لبنان وغزّة في تسويات سياسية، وعدم قدرتها على تحويل موازين القوة الجديدة في المنطقة واقعاً جيوستراتيجياً يخدم مصالحها الأمنية، ويرسّخ مكانتها الإقليمية والدولية.

تدّعي إسرائيل أنها حققت إنجازات عسكرية باهرة في حربها ضدّ حزب الله في لبنان، وأنها وجّهت ضربة قاصمة إلى قيادة الصف الأول في حزب الله، واغتالت أمينه العام الاستثنائي حسن نصر الله، ودمّرت معظم القدرات العسكرية للحزب، وأنشأت نوعاً من حزام أمني متاخم للحدود من القرى اللبنانية المدمّرة الممنوع إعادة إعمارها، واحتفظت بوجودها العسكري في خمس نقاط داخل الأراضي اللبنانية. لكن هذه "الإنجازات" العسكرية تآكلت بعد مرور أقل من عام تقريباً، والدليل عودة التهديدات الإسرائيلية بالهجوم على لبنان، بذريعة فشل الدولة اللبنانية في تجريد حزب الله من سلاحه جنوبي نهر الليطاني وشماله، وعودة الحزب إلى بناء قواه العسكرية بوتيرة سريعة، واستمرار تهريب السلاح من سورية إلى الحزب. ومعنى هذا، باختصار، من وجهة نظر أكثر من مسؤول عسكري وسياسي إسرائيلي، عودة تهديد حزب الله، وضرورة التحرّك عسكرياً بسرعة لدرء خطر حزب الله المتنامي.

وإذا كان العجز الإسرائيلي عن توظيف الحرب في لبنان في اتفاقات سياسية أمنية واضحة للعيان، فإن الغموض وحالة عدم اليقين يحيطان بقدرة إسرائيل على توظيف حرب الإبادة التي شنّتها على قطاع غزّة في صياغة الواقع الأمني والسياسي في داخل القطاع بصورة تتطابق مع المصلحة الإسرائيلية ومع خطة الرئيس ترامب ونقاطها العشرين.

يتركّز الغموض، بحسب المسؤول السابق عن شعبة الاستخبارات العسكرية، عاموس يادلين، في مسألة مَن سينزع سلاح حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وسلاح القطاع عموماً؟ فهذه ليست مهمة القوة الدولية لحفظ الاستقرار الواردة في خطة ترامب التي يقوم دورها على التأكّد من نزع السلاح، بينما تتحدّث الخطة عن قوة من الشرطة الفلسطينية تتولى هذه المهمة من دون توضيحات كافية. نقطة أخرى غير واضحة، في رأي يادلين، عدم الربط بين عملية نزع السلاح ودخول المساعدات الإنسانية وعملية إعادة الإعمار، التي إذا تمّت من دون تفكيك البنى التحتية العسكرية للحركة بصورة كاملة فقد تستغلّها "حماس" لإعادة بناء قوتها العسكرية. بيد أن التخوّف الإسرائيلي الأكبر من أن يؤدي تطبيق خطة ترامب إلى تحويل السيطرة على غزّة وإدارتها إلى شأن دولي تصبح فيه إسرائيل طرفاً من بين أطراف أخرى، وليست صاحبة القرار الحاسم.

قد تكون المعضلة الإسرائيلية في نزع سلاح "حماس" في غزّة أكثر تعقيداً من مسألة نزع سلاح حزب الله في لبنان، لأن الحل السياسي في القطاع بات اليوم في عهدة عدة أطراف عربية وإقليمية ودولية. وفي ما يتعلّق بسلاح حزب الله، وفي ضوء الاتهامات الإسرائيلية والأميركية بعجز الدولة اللبنانية وتقاعسها عن القيام بهذه المهمة، فإن المسألة لا تزال في يد إسرائيل حصرياً. فما السيناريوهات الإسرائيلية في هذا الشأن؟

تتأرجح السيناريوهات بين شنّ عملية عسكرية واسعة النطاق في لبنان على شاكلة حرب إسرائيل في غزّة، تشمل كل المناطق اللبنانية، بما فيها العاصمة بيروت، وبين سيناريو القيام بعملية توغّل بري إسرائيلي محدودة في منطقة جنوبي الليطاني، و"تنظيفها" من أي وجود عسكري للحزب، وتدمير البنى التحتية التي له في المنطقة، وانتهاءً بـ"أيام قتالية" في لبنان على غرار "معركة بين الحروب" التي خاضتها إسرائيل طوال سنوات ضد الوجود العسكري الإيراني في سورية.

في غضون ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أن الفشل الإسرائيلي في لبنان، الذي هو بالمناسبة فشل أميركي أيضاً، لأن تعويل إسرائيل والولايات المتحدة على قدرة الحكومة اللبنانية على القيام بمهمة نزع سلاح حزب الله لم يعتمد على تقديرات موضوعية لموازين القوى الحقيقية في لبنان، واعتمد بصورة مبالَغ فيها على قدرة المسؤولين الأميركيين على التأثير في لبنان، الذين لم يتعاملوا بالجدية المطلوبة، واستخفّوا بقدرة حزب الله على مواصلة سيطرته السياسية على مراكز الثقل في الدولة اللبنانية، سواء من خلال رئاسة المجلس النيابي، أو عبر الوزراء الشيعة في الحكومة، أو من خلال الجيش اللبناني الذي يشكّل الشيعة أغلبية كبيرة من ضباطه. يُضاف إلى ذلك استمرار الحزب، على الرغم من الضربة الموجعة التي وُجّهت إليه، في إدارة شؤون قاعدته الشيعية بعد الحرب على الصعيدَيْن المعيشي والاجتماعي، من خلال المساعدات التي قدّمها لأفرادها، على الرغم من الأزمة المالية التي يمرّ بها.

وفي الواقع، فإن المبالغة الأميركية في تعظيم دور الدولة اللبنانية في القيام بمهمة، من المعروف سلفاً أنها عاجزة عن القيام بها كما ينتظر الأميركيون والإسرائيليون، وكذلك الاتهامات الأميركية للدولة اللبنانية بأنها دولة "فاشلة"، على حدّ تعبير السفير الأميركي في تركيا توم برّاك، كلاهما يقعان في خانة سوء فهم عميق للتركيبة الداخلية اللبنانية الهشّة والمعقدة، والتفكك الهائل الذي لحق "بأوصال" هذه الدولة طوال عقود من الحروب الأهلية والإسرائيلية.

والراهن اليوم، بعد عجز إسرائيل عن تحقيق "النصر المطلق" في حربها على "حماس" وحزب الله، أن ينصح المستشرق ميخائيل ميليشتاين إسرائيل بالاعتراف باستحالة تحقيق "النزع المطلق للسلاح"، سواء لـ"حماس" أو حزب الله. ومن دون أفكار مبتكرة واستثنائية يبقى الحلّ الوحيد في الأفق لهذه المعضلة عودة الحرب.