رسالة مفتي الجمهورية بمناسبة رأس السنة الهجرية:

لسنا غنماﹰ أو هملاﹰ لكي يتصرف هذا الفريق أو ذاك بهويتنا وانتمائنا

وجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان كلمة الى الراي العام لمناسبة ذكى النبوية جاء فيها :

أيها المسلمون، أيها اللبنانيون جميعا، مع حلول كل عام هجري جديد، يقف المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها محتفين بعام جديد، ومستذكرين أحداث الهجرة النبوية الشريفة، التي تستحق الوقفة المتأنية، لأنها كانت في حقيقتها، حدثا بالغ الأهمية في تاريخ العرب والمسلمين، إذ أنها لم تكن نزهة ولا رحلة سياحية للترفيه والتفرج والاطلاع، ولم تكن سفراﹰ وانتقالا لتحصيل متع الدنيا وملذاتها، وإنما كانت انتقالاﹰ من أجل الحفاظ على العقيدة، وتضحية بالنفس والمال والأهل والولد، من أجل العقيدة، فهي تبدأ من أجل العقيدة، وغايتها العقيدة.

فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثته بمكة، قرابة الثلاثة عشر عاما، داعيا للوحدانية والاستقامة الخلقية، والانضمام إلى ركب وحدة الدين الذي دعا إليه وإليها، أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي بنى البيت العتيق مع ابنه إسماعيل بمكة المكرمة. ولذلك ، فإن العرب الذين كانوا يحجون إلى البيت، هم أولى الناس بالبقاء على دعوة إبراهيم وديانته.

فعندما نحتفي ونحتفل بذكرى الهجرة، فنحن نتذكر المشقات التي عاناها الرسول والمسلمون الأوائل، الذين مات منهم عديدون تحت التعذيب. وهكذا شأن دعاة الحق والحقيقة، فالذين يؤمنون بفكرة أو توجه يكون عليهم الثبات، ويكون عليهم الثقة بالله، ويكون عليهم الإصرار على ما آمنوا به دونما عنف أو رد على العدوان بالعدوان. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون أنصار الدين الجديد، ويعرضون عليه العروض المغرية، إذا رجع عن دعوته، يقول: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)! فدرس الهجرة الأول، هو الثبات على المبدأ، ولو أدى ذلك إلى ترك الأحباب والأوطان.

أما الدرس الثاني في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الثقة بالله والتوكل عليه بعد كل مشقة. ولولا ثقته عليه الصلاة والسلام بوعد الله للمؤمنين به وللمتوكلين عليه، لما تحمل مشقات الدعوة، ولما هاجر للمتابعة، وللخروج من الأفق المسدود، الذي بلغه بعد ثلاثة عشر عاما.

أما الدرس الثالث من الهجرة، فهو مشروعية الهدف الذي يسعى إليه الإنسان. والمشروعية واضحة، وهي أن يكون الهدف البناء والخير، وإرادة الحياة المزدهرة للناس جميعا. في يثرب الجديدة، أو المدينة، بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتوافق بين الفئات المختلفة مجتمعا وأمة بالتكافل والتضامن، وبدون تفرقة على أساس الدين أو القوم أو القبيلة. وعندما عاد إلى مكة ودخلها فاتحا، قال لكل خصومه الذين عذبوا وقتلوا: أنتم الطلقاء. أيها اللبنانيون، نحن في أزمة كبرى، ليس بسبب عدم تشكيل الحكومة فقط، بل ولسوء الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والانقسام السياسي العميق. إن الأمر يتطلب التضامن والتوافق وتبادل الرأي بروح طيبة، وبإدراك عاقل للمشكلات الوطنية، والإرادة المخلصة في الوصول إلى حلول لها. نحن محتاجون إلى هدوء الكبار وحكمتهم، كما نحتاج إلى وعي المسؤولين الكبار بمسؤولياتهم؛ وهي كثيرة وخطيرة بالفعل. التعاند لا يفيد. وكذلك لا يفيد الإصرار الحقيقي أو الموهوم على الصلاحيات. لأنه عندما يتهدد النظام، لا تعود هناك قيمة للصلاحيات أو المرجعيات. (...)

وإنني لأتوجه هنا إلى رئيس الحكومة المكلف، وقد سرّنا جميعاﹰ التضامن من حوله, لكنني أتوجه إليه بالتحية، لأنه لا يشارك في هذه المنافرات الكلامية، التي لا تفيد إلا زيادة في الشقاق. إن لدينا الآن تضامنات طائفية شيعية وسنيّة ومسيحية. ورئيس الحكومة شأنه في ذلك، شأن والده الشهيد، ينبغي أن يظل على إصراره في تجاوز الطائفي إلى الوطني. نعم، أيها الإخوة المواطنون، لنرتفع جميعا إلى المستوى الوطني، أو نتضرر جميعا، ولا تعود العودة ممكنة إلا بخسائر كبيرة، بدأت تقع فعلا! نحن مع رئيس الحكومة المكلف، في بعده عن الإثارة، وسعيه للوفاق الوطني، والتوازن الوطني، والنهوض الوطني. وعلى هذه الشاكلة الوطنية، نرجو أن تتشكل حكومته، لتكون حكومتنا جميعا! فالعصبيات الطائفية، تنتج كل منها الأخرى، ولا يبقى للوطن شيء أيا كان!

أيها المسلمون، ذكرى الهجرة تحفيز على النضال , وتقديم الأهداف السامية على المصالح الصغرى، وعلى أحلام الثروة والسلاح، والفساد والخراب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ). فلتكن هجرتنا جميعا إلى الوطن الذي نحبه ونحرص على أمنه وسلامه ورفاهه، ليبقى وطننا لنا جميعا، سيداﹰ حراﹰ مستقلاﹰ ، متمتعاﹰ بالحكم الصالح والرشيد. وكل عام هجري وأنتم بخير".