العدد 1387 / 20-11-2019

د. وائل نجم

لن يحتفل لبنان هذا العام بالذكرى السنوية للاستقلال ككل عام. فالبلد على صفيح ساخن، والانتفاضة أو "الثورة" كما يحلو للبعض أن يسمّيها تجتاح معظم المناطق والمحافظات اللبنانية، ويشارك فيها الكبار والصغار، الرجال والنساء، الطلاب والعمّال، العاديون والمثقفون، وحدها الطبقة السياسية معزولة عن هذا الحراك، بل ومستهدفة به. والجيش الذي عوّد اللبنانيين على إقامة هذه الذكرى والمناسبة بعرض عسكري كان يجري في بيروت، هذا العام مشغول بحفظ الأمن وفتح الطرقات ومنع البلد من الانزلاق نحو الفوضى أو الفتنة. لكل ذلك فإن هذه المناسبة هذا العام ستقتصر على مراسم بسيطة ومتواضعة وتتكيّف مع أجواء البلد الذي تطالب الانتفاضة بتغيير نظامه، أو على أقل تقدير رحيل الطبقة السياسية المسؤولة عن كل مآسيه ومصائبه وأزماته وديونه.

ولمناسبة الحديث عن الاستقلال فلا بدّ من التذكير أن لبنان استقلّ، كما درسنا في كتب التاريخ، عن الاحتلال الفرنسي في عام 1943. وقد خلّف الاحتلال الفرنسي وراءه نظاماً سياسياً طائفياً متخلّفاً قام على غير توازن في البلد، بل منح بعض المكوّنات صلاحيات فاقت حجمها وحدّها، وتجاوزت صلاحيات المكوّنات الأخرى، ما أشعر أولئك بالغبن والظلم وقد أدّى ذلك، مقروناً بممارسات وسياسيات "كيدية" أحياناً إلى موجات من الفوضى والعنف والانتفاضة كما في العام 1958، وصولاً إلى الحرب الأهلية المشؤومة في العام 1975 والتي كان لها أسباب كثيرة، ولكن من بينها، بل من أبرزها الشعور بالغبن والسياسات التي كانت متبعة، وقد دفع اللبنانيون ثمناً باهظاً جراء تلك الحرب، وصولاً إلى العام 1989 عندما تمّ الاتفاق في مدينة الطائف على وضع حدٍّ للحرب، والبدء بمرحلة جديدة يكون الاستقرار سمتها الأساسية، وبالفعل تم توقيع وثيقة الوفاق الوطني، أو ما اصطلح على تسميته بـ "اتفاق الطائف" الذي وضع حدّاً للحرب المشؤومة، وأطلق مرحلة جديدة بعد إدخال بعض التعديلات الجزئية والطفيفة على الدستور، وهو ما يمكن تسميته بدء الجمهورية الثانية في لبنان إذا اعتبرنا أن الجمهورية الأولى بدأت بعد الاستقلال في العام 1943.

اليوم وبعد الحراك الشعبي، والانتفاضة الشعبية العارمة والمتواصلة منذ أكثر من خمسة وثلاثين يوماً بزخم كبير، وانتشار واسع، وبعد الإصرار من المتظاهرين، وهم بالمناسبة من كل الفئات العمرية، ومن كل المذاهب والطوائف والمكوّنات الثقافية، على تحقيق المطالب التي تتركّز بشكل أساسي على مكافحة الفساد والفوضى والعجز، وبناء دولة ديمقراطية مدنية يكون سقفها القانون والدستور، ويتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات بعد خروجهم من المربعات الطائفية والمذهبية والسياسية، وتكون صاحبة السيادة والسلطة على أرضها وقرارها، هل يمكن القول إن زمن الجمهورية الثالثة بهذه المواصفات الحضارية الراقية قد حان واقتراب ويمكن تحقيقه؟ هل يمكن القول إن هذه الانتفاضة، وإن هؤلاء المتظاهرين، أو الثوار، سيعبرون بالدولة من زمن الجمهورية الثانية حيث المحاصصة الطائفية والزبائنية السياسية والمصالح الضيقة والخاصة إلى زمن الجمهورية الثالثة حيث سيادة القانون ومبدأ المساءلة والمحاسبة والشفافية والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات فما من شتاء أو صيف تحت سقف واحد؟!

الحقيقة أن تصوّر ذلك قد يكون من الخيال والافتراض، ولكن الأحداث والتطورات قد تقودنا إلى واقع نجد فيه هذه الجمهورية المنشودة واقعاً قائماً. فمن كان يقول قبل فترة وجيزة إن اللبنانيين يخرجون بهذه الطريقة، وهذا الإصرار وخارج الأطر المعروفة والمربعات التي تشبه السجون ليؤكدوا رفضهم لكل هذه الطبقة السياسية؟! من كان يقول إن هذه الانتفاضة كان يمكن لها أن تستمر كل هذا الوقت وبكل هذا الزخم والاندفاع؟! من كان يقول إن الجدران الطائفية والسياسية يمكن أن تسقط في بلد يقوم نظامه السياسي على الانقسام الطائفي والتوزيع المذهبي؟!

الحقيقة أن الناس "كفرت" بكل أولئك، وهي تتطلع إلى مستقبلها ومستقبل أبنائها في ظل نظام يحفظ الحق للجميع، ويكون المعيار فيه هو الكفاءة، والمبدأ هو النزاهة والشفافية، وبالتالي فإن اللبنانيين أمام فرصة حقيقية للعبور بالدولة إلى زمن الجمهورية الثالثة، جمهورية العدل والمساواة وتكافؤ الفرص والشفافية والمساءلة والمحاسبة. جمهورية اللبناني المتطلع دوماً نحو الأفضل.