وائل نجم -كاتب وباحث


 تعرّض إحدى الطائرات التي كانت تهم بالهبوط في مطار رفيق الحريري الدولي قبل أيام لمخاطر جراء انتشار مجموعات كبيرة من طيور النورس في محيط المطار بسبب النفايات التي تتكدس وتطمر في مطمر «الكوستابرافا» بطريقة استدعت حضور هذه الطيور بهذه المجموعات، فتح النقاش في البلد على سلامة الطيران المدني، وسلامة المطار، وسلامة المواطنين أيضاً، ولكنه فتح معه أيضاً جروحاً غائرة في ملفات كانت منسية.
عندما تفاقمت السنة الماضية والتي سبقتها أزمة النفايات وتكدّست في شوارع العاصمة بيروت والضواحي وغيرها، وعجزت السلطة السياسية عن إيجاد الحلول الجدّية والمقنعة التي تضمن السلامة لكل القطاعات، أخذنا الكيد السياسي، و«العنجهية» و«كبر الراس» وتسجيل المواقف على بعض، والحسابات الضيقة طائفياً ومذهبياً ومناطقياً إلى التسليم والاتجاه نحو الخاصرة الأضعف في محلة «الكوستابرافا»، واعتماد هذه المنطقة المحاذية لمطار رفيق الحريري، والتي تمثّل جزءاً من الشاطئ اللبناني الذي لا يبعد عن العاصمة بيروت سوى كيلومترات قليلة، مطمراً لتلك النفايات التي سيقت من كل مكان. يومها حذّر كثيرون من مخاطر وجود المطمر في هذه المنطقة الحساسة، وأشاروا بالضبط إلى المخاطر التي يمكن أن تحدق بسلامة الطيران المدني، ولكن وقتها «على من تقرأ مزاميرك يا داود؟!» ضربوا عرض الحائط بكل الاعتبارات، وذهبوا إلى هذا الحل الاقصر، بل ربما الأقل كلفة والأكثر ربحاً، واعتمدوه من دون الالتفات إلى شيء، ولا نعلم حتى إذا كان العمل يجري داخل المطمر ضمن المعايير القانونية والمطلوبة، فذاك شيء آخر. المهم اليوم استفاق الجميع على تلك المخاطر المحدقة، وبدأوا عملية البحث عن الوسيلة التي تضمن السلامة والحلّ لمشكلة النفايات.
التفكير في البداية جاء قاصراً، فانصبّ على معالجة إشكالية الطيور، ولم يتجه نحو أساس المشكلة، وهي النفايات. فبدأت الاقتراحات «الصبيانية» بإبعاد طيور النورس عن المدرج من خلال استعمال أصوات النسور وأصوات أخرى قيل إنها تبعد النورس عن المدرج. ثم سمحوا، وخلافاً للقانون، للصيادين بإطلاق عنان بنادقهم لتلك الطيور التي تبحث عن رزقها، ظناً منهم أنهم بذلك يقضون على هذا المخلوق الذي يسبب القلق والازعاج والخوف، ثم ذهبوا بتفكيرهم إلى أساليب أخرى كلها وضعوها قيد التجربة، ولكنهم لم يفكروا للحظة بإيجاد حل للمشكلة الاساسية، وهي النفايات التي شكّلت مادة دسمة استدعت حضور مجموعات طيور النورس إلى هذا المكان. وصدقوني، طيور النورس لا تستهدف الطائرات، ولا تبحث عنها ولا تفكر فيها، إنها تبحث عن لقمة عيشها، ورزقها، ووجدتها في نفاياتكم، فعندما تزال النفايات من هذا المكان، ستذهب الطيور تبحث عن أرزاقها في أماكن أخرى، وسيكون الطيران المدني بسلامة، ولن تذهب المليارات التي صرفت على إنشاء المدرج الجديد المتوقف حالياً هباءً وأدراج الرياح. المسألة بسيطة، أوقفوا النفايات، تتوقف طيور النورس عن الحضور إلى محيط المطار، وتضمنوا سلامة الطيران المدني.
وبمناسبة الحديث عن السلامة، خاصة أن البعض أطلق حملة لحماية طيور النورس، وضمان سلامتها كجزء من الحفاظ على البيئة، وهو أمر مشروع، بل ومن حق هذه الطيور المسالمة أن تعيش بسلام. وكذلك هناك من انتفض لسلامة الطيران المدني، وهو بالتأكيد أيضاً أمر مشروع ومطلوب، لأن تهديد هذه السلامة يهدد المطار وحركة النقل، فضلاً عن حياة المسافرين وسوى ذلك. ولكن أيضاً لا بدّ أن نسأل ونطالب بسلامة المواطنين، نعم، المواطنين في بيوتهم وطرقاتهم وأعمالهم. عندما تكدّست أطنان النفايات في الشوارع وبين البيوت لأشهر، ألم يشكّل ذلك تهديداً لسلامة المواطنين بانتشار الأوبئة والأمراض بينهم؟ ومن قال إن الكثيرين اليوم لا يعيشون في معاناة مرضية جراء تلك السموم التي تنشقناها يوماً أو شربنا ماءها دون أن ندري؟ أليس من حق هؤلاء أن يعيشوا بسلامة ايضاً؟ أليس من الأجدى التفكير في سلامتهم ومصيرهم؟ ولماذا لا يصار إلى حل جذري لأزمة النفايات يخرجنا من هذه الدوّامة بحيث نحافظ على سلامة مواطنينا وسلامة طيراننا المدني ومطارنا، وسلامة الطيور التي تقصد أرضنا بحثاً عن أرزاقها؟
عندما برزت مشكلة النفايات في زمن الحكومة الماضية، كانت المؤسسات عرجاء. لم يكن عندنا رئيس للجمهورية، وكانت الحكومة تشبه حكومة تصريف الاعمال، وكانت المناكفات والسجالات والصراعات لا تنتهي ولا تتوقف، فانسدت الآفاق أمام كل الحلول لمشكلة النفايات التي استغلها البعض في السياسة ايضاً، وكانت النتيجة «مطمر الكوستابرافا» الذي يهدد سلامة الطيور وسلامة المطار وسلامة المواطنين. اليوم عندنا رئيس للجمهورية، وعندنا حكومة «وحدة وطنية»، وعندنا مؤسسات، وأمامنا مشكلة تهدد كل هذه السلامات، فهل هناك من مبرر لعجز هذه المؤسسات عن إيجاد حل جذري لأزمة النفايات، أساس كل المصائب؟ وعليه فإن إيجاد حل لهذه المشلكة لا يقلّ أهمية عن الموازنة، ولا عن قانون الانتخاب ولا عن أي شيء آخر.
يبقى أمر لا بدّ من الحديث عنه في ضوء الحديث عن سلامة الطيران المدني وسلامة المطار، هو لماذا لا تفكّر الحكومة جدّياً في تشغيل مطار القبيات في عكار ليكون مطاراً مساعداً ورافداً لحركة الملاحة الجوّية وضامناً للسلامة التي نفتقدها في مطار بيروت، ليس من قبل طيور النورس، بل من خفافيش غالباً ما تظهر في الليل تصطاد ضحاياها، وما أكثرهم في زمن التفلت الأمني وانتشار فوضى السلاح?