وائل نجم

ما بين الرابع من تشرين الثاني والرابع من كانون الأول عاش لبنان فترة من الاضطراب والتوتر، ثم القلق والانتظار، ثم التريث والعودة إلى انتظام الحياة العامة. كل ذلك كان بفعل الاستقالة الملتبسة التي تقدّم بها الرئيس سعد الحريري من العاصمة السعودية الرياض، ثم ما تبع ذلك من أحداث وتطورات واتصالات أفضت جميعها في نهاية الشهر إلى عودة الحريري عن الاستقالة بعد إجماع الحكومة في الاجتماع الأول الذي عقدته بعد الاستقالة في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية، ميشال عون، على مبدأ النأي بالنفس الذي سبق أن أجمعت عليه القوى السياسية اللبنانية التي كانت مشاركة في سنوات سابقة في حوار قصر بعبدا الذي كان قد رعاه في حينه رئيس الجمهورية السابق، ميشال سليمان. وأكد بيان الحكومة إضافة إلى «النأي بالنفس»، التزام «اتفاق الطائف»، والعلاقات العربية العربية، وكذلك علاقات لبنان مع محيطه العربي، ووقف الحملات الاعلامية.
والحقيقة أن هذه التسوية السياسية التي خرجت بهذا الشكل في بيان الحكومة الذي تلاه رئيسها سعد الحريري أتاحت المجال لعودة الأمور إلى نصابها الاساسي المتمثّل بعودة الحكومة إلى ممارسة عمل بشكل عادي ومتابعة كل ما يتصل بالشأن العام. وهذا بالطبع عنصر ايجابي يساهم في تعزيز الاستقرار العام في البلد، وينهي حالة التوتر والقلق والخوف من انزلاق الأمور إلى منزلقات صعبة ومجهولة.
لكن الحقيقة الثانية بعد تثبيت مبدأ النأي بالنفس وإنهاء حالة التريث في ملف الاستقالة، هي في الضمانات بالسير وفق هذا المبدأ وهذه السياسية. ليس هناك من أي طرف ضامن لتثبيت هذا المبدأ. بالأساس هو كان موجوداً وقائماً بشكل من الاشكال في بيان الحكومة الحالية، وفي خطاب القسم أيضاً، ومع ذلك تمّ تجاوزه والانقضاض عليه وضرب عرض الحائط به. فمن الذي يضمن تجاوزه مرة جديدة وأخرى عند أول منعطف يفرض ذلك في تفسير ومصالح البعض؟! قيل إن رئيس الجمهورية ميشال عون ضامن في هذا الموضوع، ولكن حتى الرئيس لم يعلن ذلك في خطاب وجّهه إلى اللبنانيين كي يطمئنهم. وقيل أيضاً إن رئيس المجلس النيابي نبيه بري ضامن أيضاً، ولكن حتى رئيس المجلس لم يعلن ذلك ويتعهد به أمام اللبنانيين. ثم ما هي خطواتهم التي يمكن أن يقوموا بها إذا ما جرى تجاوز هذا المبدأ من أي طرف؟! وما هي الإمكانات التي تجعلهم يضمنون ويلزمون الطرف الذي يمكن أن يتجاوز؟! كلها اسئلة مشروعة لأن هذه التسوية في الحقيقة مشرّعة على كل شيء، وهي أشبه بـ«صنم من تمر» سيأكله أصحابه والذين احتاجوه في هذه المرحلة عند أول محطة يشعرون فيها بأنهم بحاجة لالتهامه. وبالتالي حتى نكون صادقين مع الرأي العام، إن الحديث عن أي ضمانة بخصوص تثبيت مبدأ النأي بالنفس هو نوع من الهراء والحديث الذي لا يملك أي رصيد في حقيقة الحفاظ على هذا المبدأ.
أما الحقيقة الأخرى، فإن الالتزامات التي قدّمتها بعض الأطراف في الحكومة وربما خارجها هي التزامات لا يمكن الوثوق بها حتى لو أقسم أصحابها آلاف المرّات، لأنه ببساطة التجربة أثبتت أن التزامات الليل مع البعض قد تمحوها مصالح النهار أو بالعكس، ولعلّ نتائج حوار ساحة النجمة، ومن بعده قصر بعبدا، ومن بعده عين التينة خير دليل على هذا الكلام. كان هناك التزامات قاطعة، وفي لحظة الحقيقة والمصلحة تم القفز فوق التعهدات والالتزامات، وتقدّمت المصالح على كل المبادئ. لذا إن الشكّ قائم في صدور الجميع في ضوء عدم الثقة وانعدام المصداقية في التزامات الكثيريين.
لعلّ الرئيس المستقيل سعد الحريري كان بحاجة إلى هذه التخريجة للعودة إلى ممارسة دوره الطبيعي في البلد، خاصة في ظل تزايد الشكوك في أنه أجبر على الاستقالة ولم يكن مقتنعاً بها، ولذلك لم يلتفت كثيراً إلى مضمون ما ورد من بنود في التسوية، لأنه ليس فيها جديد، ولا إلى الضمانات أو الالتزامات، لذا لم يقف عندها كثيراً. بل ما كان يحتاجه هو الغطاء للعودة، وقد تأمّن، وكل الحديث عن موقف آخر في حال عدم التزام النأي بالنفس ليس سوى من قبيل التهويل الذي ننخدع به لا يُصرف في مكان.}