العدد 1566 /7-6-2023

إلياس خوري

يعيش لبنان، وسط حمى المشكلة الرئاسية المستعصية، مرحلة مفصلية من انقضاض النظام السياسي-الاقتصادي على الدولة بهدف تدميرها، فالدولة كفكرة وممارسة سياسية كانت دائماً أكثر ضعفاً من النظام، غير أننا نشهد اليوم ذروة تفكك الدولة أمام الانهيار الاقتصادي وفي ظل استقطاب طائفي شامل يحاصر معركة رئاسة الجمهورية من أجل تحويلها إلى مدخل إلى الفيدرالية المقوننة.

النظام السياسي اللبناني الذي تعود جذوره إلى زمن المتصرفية تشكل في سياق حرب أهلية طائفية، واتخذ بعد الاستقلال سمة نظام الحرب الأهلية الدائمة التي تنام حيناً وتستيقظ أحياناً.

معركة رئاسة الجمهورية التي افترسها الاستقطاب الطائفي السافر هي شكل من أشكال الحرب النائمة، التي تتخذ طابعها العنيف والوحشي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

وعلى الرغم من أن السلاح لم يُشهر في هذا الصراع، لكن العنف الكلامي الذي يصاحبه هو إعلان بأن الحرب مستمرة، وبأن ضحية الحرب هي الدولة، كبنية سياسية-اجتماعية.

انتفاضة 19 تشرين كانت محاولة جدية صنعها المجتمع بشكل عفوي من أجل مواجهة خطري الانهيار الاقتصادي- الاجتماعي وانهيار الدولة. لكن النظام الطائفي أخرج جميع أسلحته لقتل الانتفاضة، ثم جاء تفجير بيروت ومرفئها بشكل وحشي، من أجل أن يخرس جميع أصوات الاعتراض، ويعيد البلاد إلى مربع النظام الذي انتصر هذه المرة على الدولة والشعب معاً.

قد يظن البعض أن معادلة النظام ضد الدولة والشعب هي سمة خاصة بدولة «لبنان الكبير»، وأن المشكلة لبنانية داخلية، وتشير إلى قدرة الانقسامات الطائفية على إخصاء البنية الدولتية، وجعلها مجرد ملحق بالنظام الطائفي المافيوي اللبناني.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فلبنان منذ استقلاله كان مرآة المشرق العربي، فهو لا يعكس فقط البنى الطائفية التي ازدادت رسوخاً مع رأسمالية المضاربين الماليين والعقاريين، بل يعكس أيضاً؛ حاضر المشرق العربي بتناقضاته وصراعاته وانسداد آفاقه.

فلبنان لم ينعم باستقرار نسبي، وبمحاولة لبناء دولته إلا في المرحلة الشهابية، التي كانت انعكاساً للوعود الناصرية التي سرعان ما تلاشت بعد هزيمة الخامس من حزيران-يونيو 1967. ومع هزيمة الناصرية، بدأت الدولة اللبنانية في مسارها التفككي الذي أوصلها إلى الحرب الأهلية والاحتلالات، والانهيارات المتتابعة.

يقدم لبنان النموذج الأكثر وضوحاً وشفافية للتناقض التناحري بين النظام والدولة، غير أن هذه الظاهرة ليست لبنانية إلا بمقدار ما يشكل الوعاء الطائفي اللبناني خصوصيتها، لأنها ظاهرة عربية تشمل دولاً متعددة، من سوريا إلى العراق مروراً بفلسطين.

صحيح أن هذه الدول كانت صنيعة سايكس بيكو، الذي مزق بلاد الشام، وأهدى من خلال وعد بلفور فلسطين للحركة الصهيونية، لكن افتراض اصطناعية هذه الدول لا يفسر وحده العجز عن تأسيس بنى دولتية مهمتها التعبير عن المجتمع وبناء قيم أخلاقية وسياسية وقوانين تحكم علاقة الفرد بالسلطة وتنظم علاقة الفرد بالمجتمع.

الفشل له اسمان:

العجز عن مواجهة نكبة العرب الكبرى في فلسطين عام 1948، وتحول هذا العجز إلى مشاريع انقلابية قامت بتعميم النكبات على المجتمعات العربية.

من ينظر اليوم إلى الحاضر السوري يستنتج بأن النظام الاستبدادي انتصر أو يكاد ينتصر على الشعب. وهذا صحيح ظاهرياً، لكنه يخفي حقيقة أن النظام لم يكن باستطاعته سحق الشعب، لو لم ينجح قبل ذلك في الانتصار على الدولة، عبر تحويلها إلى صدفة فارغة يستخدمها كما يشاء، ويقوم بتدميرها عند الحاجة.

فخلال خمسة عقود من الاستبداد العاري، تم الإجهاز على جميع بنى الدولة والمجتمع، وتحولت القوانين إلى أدوات للهيمنة، وعم الفساد، وانهارت القيم الأخلاقية. وعندما انتفض الشعب وجد نفسه عارياً بلا دولة تحميه من وحشية السلطة، وبلا أحزاب ونقابات تسمح له بتنظيم ثورته.

الشعب ثار بحثاً عن دولته، فقام النظام بالإجهاز على ما تبقى من مؤسسات الدولة، وتصرف كعصابات مسلحة أدت إلى تهجير نصف الشعب وإذلال وإفقار نصفه الثاني.

أما إذا قرأنا الواقع الفلسطيني فإننا نجد أنفسنا أمام صورة كاريكاتيرية لعلاقة النظام بالدولة. فالنظام السياسي الفلسطيني نشأ بعد اتفاقية أوسلو كإطار لتأسيس دولة فلسطينية مستقلة. غير أن هذا الإطار، وأمام انكشاف خدعة أوسلو، تحول إلى أداة في يد الاحتلال الإسرائيلي من أجل وأد فكرة الدولة. فالتنسيق الأمني لا يحمي السلطة الفلسطينية من شعبها فقط، بل يحمي التوحش الاستيطاني الإسرائيلي ونظام الأبرتهايد الذي يعلن بصريح العبارة أن لا دولة فلسطينية، وأن مصير الضفة الغربية والقدس هو الابتلاع.

فلسطين تقدم نموذجاً صارخاً عن نظام بلا دولة. لا أدري كيف يبرر النظام السياسي الفلسطيني وجوده، بعدما انتفى المبرر الشرعي لهذا الوجود؟

أما في العراق فاللعبة متعددة المستويات، النظام الاستبدادي جعل الدولة فريسة الاحتلال الأمريكي، والاحتلال حطم النظام القديم وأنشأ على أنقاضه نظاماً طائفياً قام بتحويل الدولة إلى ديكور يخفي تبعيتها للطوائف ورعاتها، بحيث ابتلع الفساد الدولة وحولها إلى مجرد إطار لبنية تتلاشى.

نستطيع أن نتابع جولتنا، من مصر وهي أقدم دولة في التاريخ، التي تجد نفسها ترزح تحت نظام استبداد عسكري حول الدولة إلى ظل باهت له، وصولاً إلى السودان، الذي نجح الاستبداد في سلخ جنوبه عنه، قبل أن تقوم الطغمتان العسكريتان اللتان صعدتا كجواب على الثورة الشعبية، بالانقلاب على الثورة قبل أن تدخلا في صراع مميت لا يهدد بتدمير الدولة السودانية فقط، بل يهدد أيضاً بتحويل السودان إلى أشلاء.

كما نرى فإن «لبنان إن حكى» (والتعبير مأخوذ من عنوان كتاب لسعيد عقل عبّر فيه عن العظامية اللبنانوية) فلن يقتصر كلامه على حكاية نظامه الطائفي المافيوي الذي يقوم بقتل دولته وتمزيق شعبه، بل سيكون مدخلاً يسمح لنا بقراءة المسار الانحطاطي العربي.

الاستبداد والطائفية هما وجها الخراب العربي الشامل الذي يتصادى مع الاحتلال الإسرائيلي رغم كل الشعارات الكاذبة.

فالخراب بدأ بالانقلاب على فكرة الدولة نفسها، وتشكّل كخطابات قومجية و/أو طائفية، ووصل إلى حدود تمزيق الأرض وسحق الشعوب، واغتيال الروح.