وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة بمناسبة أول أيام السنة الهجرية الجديدة، قال فيها: يقول المولى تعالى في محكم تنزيله: >إلا تنصروه فقد نصرَه الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانيَ اثنين إذ هما في الغار إذ يقولُ لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم ترَوْها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم<.
تحل علينا ذكرى الهجرة النبوية هذا العام،  وأمتنا غارقة في الدماء والدموع. الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ما كانت زيارة ولا سياحة، بل أعباء ومشقة، كما هو شأن كل مغادرة للأوطان ومرابع الطفولة والشباب. فقد حاول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وطوال قرابة الثلاثة عشر عاماً من دعوته بمكة، أن يبشر بني قومه وينذرهم، فما آمن معه إلا قليل. 
ثم أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم من المؤمنين، بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم: (إن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد). وخشيت قريش أن تنتشر الدعوة بهذه الطريقة خارج مكة، فأرسلت رسلها إلى النجاشي ملك الحبشة المسيحي، ليطرد المسلمين من عنده، وقد زعم رسولا قريش أن هؤلاء اللاجئين عنده والطالبين الحماية والعيش موقتاً في جواره، هم ضد دعوة عيسى عليه السلام، فقرأ جعفر بن أبي طالب، (ابن عم النبي) على الملك صدراً من سورة مريم، فتأثر النجاشي وقال: (إن هذا وما أتى به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة)، وأبى أن يطرد الآتين إليه هرباً من الاضطهاد بسبب إيمانهم.
ثم انطلق رسول الله بصحبة أبي بكر، يقصد العرب في مواسمهم، فيدعوهم إلى مائدة الحق والصدق.
ومضى إلى الطائف، فلم يأبه له وجهاؤها، لأنهم كانوا يعرفون من قريش أن محمداً ليس ملكاً ولا جباراً، وإنما هو ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة، وتبعه سفهاؤهم وغلمانهم يسخرون منه، فخرج رسول الله | من الطائف، عائداً إلى مكة.
أضاف: «هذه أطراف مما عاناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سنوات دعوته الأولى. ولذلك فقد رجا عليه الصلاة والسلام أن يجد في الهجرة إلى يثرب فرجاً ومخرجاً. لقد كان بين خيارين أحلاهما مر: أن يبقى بمكة مع الذين آمنوا بدعوته، متحملين سفاهة السفهاء وشماتة الأعداء، أو أن يخرج من وطنه من أجل الدعوة والفرص الأفضل لنجاحها، فخرج عليه الصلاة والسلام إلى يثرب سراً، يصحبه أبو بكر الصديق، بعد أن كان قد طلب من أصحابه خلال عام أن يخرجوا قبله متفرقين، حتى لا تردّهم قريش.
في يثرب التي سماها رسول الله (المدينة) بدأ تاريخ جديد للإسلام. فبالهجرة، بدأ المسلمون في زمن عمر بن الخطاب يؤرخون. وفي الهجرة، أو دار الهجرة، تأسست الأمة، وقامت الدولة، وعاد المسلمون بعد ست سنوات فقط إلى مكة فاتحين. وفي هذا كله، درس في الثبات والإثبات، وأن الله سبحانه وتعالى ينجز وعده، ويحقق عهده، وأن الإيمان يصنع الكثير من الإنجازات، وأن الله عز وجل، لا يضيع أجر من أحسن عملا».
أيها العرب ، أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون:
إن ما يحدث في بلدان عربية، من حصار وقتل وتجويع، للإرغام على ترك الأرض والوطن، هو تهجير يأباه الحق وتأباه المواطنة، وتأباه إنسانية الإنسان. وقد وضع لنا القرآن الكريم قاعدة لا ينبغي المساس بها، ولا إنكارها، عندما طلب منا أن نتعامل مع سائر بني البشر بالبرّ والقسط، إلا إذا قوتلنا في ديننا أو في ديارنا ؛ فقال عز وجل: >لا ينهاكُم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين< الممتحنة : 8.
نعم، ينبغي أن تكون هناك مقاييس دينية ووطنية وإنسانية، للتعامل بين المواطنين، وبين بني البشر، ولا أقل من أن ننكر أشد الإنكار القتل والتهجير، ومن لم يستطع الإنكار باليد فليفعل ذلك باللسان أو بالقلب، كما جاء في الحديث الشريف. والإنكار القلبي، يتمثل في عدم الولاء أو التحالف مع القتلة أو التظاهر باستحسان أفعالهم، أو الدفاع عنها بذرائع أوهى من خيط العنكبوت. ما ذنب الأطفال والنساء والشيوخ؟ ولماذا يجوع الناس ويقتلون؟ اللهم إننا ننكر ذلك ولا نوافق عليه، ولا نرضاه، لا باللسان ولا بالقلب».
وقال دريان: «في عاشوراء انتصر الدم على السيف، وفي سورية وغيرها، سينتصر الدم المسفوك، والطفل البريء المقتول، على الذين قتلوه بالطائرات والمدافع، والحصار والتجويع.
وتأتي ذكرى الهجرة، مثلما أتت مناسبات كثيرة، وهناك جرائم كبرى ترتكب في حق وطننا ودولتنا. لماذا يمضي عامان ونصف العام، ولا رئيس للدولة، ولا عمل لمجلس النواب، والحكومة تتعطل؟ ويقال لنا: إن التصعيد قادم. فلماذا هذا كله؟ ولماذا هذا الاستنفار للعصبيات والطائفيات، وسائر أنواع الكراهية؟ وأين هم النواب المنتخبون؟ ولماذا لا يأتون إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس؟ أتريدون أن تصبح الحال في لبنان مثل الحال في بعض دول المنطقة؟ ولأي هدف وغاية؟
وتابع: «يا ساسة لبنان، كفى، جميعكم يريد حلاً على طريقته، فلتوحد الرؤى، فلا يجوز بعد اليوم السكوت والتهاون بمصير الوطن. الجميع مسؤول، وإلا كلنا مشاركون في احتكار الوطنية كما يراها كل واحد منكم، علينا أن نكون أحراراً في خياراتنا وقراراتنا التي توافق مصلحة الوطن.
إننا نؤكد ضرورة الوعي الكامل، كي لا ينزلق لبنان واللبنانيون في صراعات داخلية، تعود بالخراب على وطنهم. ونعرب عن قلقنا من تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء، وتعليق هيئة الحوار الوطني، فالحكومة مدعوة للانعقاد مهما كان السبب، والحوار الوطني، ينبغي أن يعاود جلساته تحت أي ظرف.
اليوم، نحن أمام معركة احتواء لما يجري على الساحة اللبنانية، من توحيد الصف، ولم الشمل، وليس توجيه الاتهامات يساراً ويميناً باتجاه بعضنا بعضاً، علينا أن نسعى جميعا أن نكون يداً واحدة، مهما اختلفت توجهاتنا، فلبنان يستحق منا كل تضحية من أجل بقائه، ومن أجل أبنائه. ويستحق أن نحميه من العاصفة التي قد تجتاح كل شيء في المنطقة، إذا لم نكن يقظين، وعلى قدر المسؤولية التي الزمنا في أعناقنا.
أيها المسلمون أيها اللبنانيون:
إننا في ذكرى الهجرة المؤلمة، التي أنتجت خيراً كثيراً، نسألك اللهم يا من كتبت على نفسك الرحمة، أن تجعل لنا من أمرنا رشَدا، وأن تجعل لنا فرجاً ومخرجاً، فقد أصيبت البلاد والعباد، وبدأ فقراؤنا يئنون تحت وطأة العوز والحاجة، ويوشك العالم أن يعرض عنا، ونعلن دولة فاشلة».
وختم دريان: «في ذكرى الهجرة، نسألك اللهم أن نظل في ديارنا آمنين، وأن تنظر يا أرحم الراحمين إلى عبادك في العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا، بعين العناية والرحمة».