وائل نجم

الأزمة السياسية التي خلّفتها استقالة رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، يوم الرابع من تشرين الثاني الجاري بالشكل الذي حصلت فيه ليست عابرة أو بسيطة. المعروف أن الدستور اللبناني بعد اتفاق الطائف في عام 1989 وزّع الصلاحيات نصّاً بين رئيس الجمهورية المسيحي، ورئيس مجلس النواب الشيعي، ورئيس مجلس الوزراء المسلم السنّي، ورسم الطريقة والآلية لانتخاب وتكليف كل رئيس من هؤلاء الرؤساء، وقد شكّلت وثيقة الطائف في حينه الضمانة لإنهاء الحرب اللبنانية التي اندلعت في عام 1975. وتتعامل المكوّنات اللبنانية في ما بينها على أساس أن الموجود على رأس كل منصب من هذه المناصب يمثّل المكوّن الذي ينتمي إليه ولا يمثّل نفسه أو تياره السياسي فقط، وبالتالي فإن الرئيس سعد الحريري، وهو على رأس الحكومة المستقيلة أو المعلّقة الاستقالة إلى حين حضوره إلى بيروت وتقديم الاستقالة حضوراً إلى رئيس الجمهورية، يمثّل المكوّن السنّي في هذا النظام. 
استقالة الرئيس سعد الحريري خلّفت أزمة على مستوى النظام السياسي، وأوجدت مجموعة تحدّيات أمام سنّة لبنان لا بدّ من التعامل معها بدّقة متناهية، وإلا فإن الإحباط الذي جرى الحديث عنه في الآونة الأخيرة في الشارع اللبناني عموماً، والسنّي خصوصاً، والذي أنكره الرئيس الحريري ابتداءً، ثم عاد واعترف بوجوده في كتاب استقالته، مرشّح إلى مزيد من التفاعل الذي يمكن أن يتحوّل إلى يأس وكفر بالدولة، بل إلى خروج عنها مع ما قد يعنيه ذلك من مخاطر على البلد وكل مكوّناته، وعلى الأخص على المكوّن السنّي فيه. 
خطوة الاستقالة بالطريقة التي جرت بها أعطت انطباعاً للجميع بأنها فُرضت على الرئيس الحريري فرضاً. وقد يكون ذلك صحيحاً، وقد يكون فيه الكثير من المبالغات. المهم في الأمر حتى لو كانت مفروضة عليه، أن الكثير من الأسباب التي تضمنها كتاب الاستقالة حقيقة قائمة ويتحدث بها المواطن العادي قبل السياسي المرموق. وتجاهل هذه الأسباب والقفز فوقها وتجاهلها لا ينفع في حلّ هذه الأزمة الإشكالية. وعليه فإن الرئيس ميشال عون أمام تحدّي مواجهة هذه الأزمة، وكذلك المكوّن السنّي معني أيضاً بمواجهة التحدّيات التي يمكن أن تنشأ عنها.   
الكل يعتقد أن خطوة استقالة الحريري بهذا الشكل تعطي انطباعاً بأن خطوات أخرى ستليها من الجهة التي ضغطت على الحريري لتقديم استقالته، أو ربما أقنعته بها. المهم أن الانطباع العام عند الخصوم قبل الحلفاء، أن هذه الخطوة قد تليها خطوات إضافية قد تكون ضغوطاً وعقوبات اقتصادية تستهدف لبنان، وهذه يتأثر بها النظام اللبناني، والمجتمع اللبناني وبدرجة أقل «حزب الله». وكذلك قد تكون ضغوطاً وعقوبات سياسية وعزلة عن العالم، وهذه أيضاً يتأثر بها النظام والمجتمع، وبدرجة أقل أيضاً «حزب الله». الشيء الذي يمكن أن يؤثر في «حزب الله» باعتباره أبرز الأطراف المستهدفة بأي خطوة تالية متوقعة، هو الاستهداف العسكري أو الأمني. «حزب الله» أبدى خشيته من ذلك وإن كان على مستوى التعاطي والتعامل الإعلامي لم يُظهر خوفه وقلقه، وقد لمسنا ذلك في خطاب أمينه العام، حسن نصرالله، على الرغم من جزمه أكثر من مرة بأنهم غير خائفين من خطوات السعودية. والطرف الذي يمكن أن يعلن حرباً على «حزب الله» في لبنان أو في سورية هو الكيان الإسرائيلي. أو الطرف الذي يمكن أن يشنّ عملية عسكرية على «حزب الله» يمكن أن يكون تحالفاً دولياً من السعودية وأميركا وآخرين. ولا ننسى في سياق الحديث عن الخيارات العسكرية والأمنية اعتماد خيار نشر الفوضى في لبنان لإرباك «حزب الله» ودفعه إلى خلط أوراقه من جديد. وأي احتمال من هذه الاحتمالات ليس نزهة أو أمراً عادياً، ولكنه يبقى وارداً ولا بدّ في هذه الحالة للمكوّنات اللبنانية أن تأخذ موقفاً حياله، ومن أبرز من هم أمام تحدّي كبير إزاء ذلك، المسلمون السنّة في لبنان. ثم إن هناك تحدّياً آخر للسنّة إذا لم يكن هناك أية خطوة لاحقة للإستقالة، إذ إن ذلك سيضاعف من حجم إحباطهم، وبالتالي ستنكشف الغمامة والغموض الذي يكتنف الاستقالة حتى اليوم، وبعدها سيشرع رئيس البلاد في التحضير لتكليف رئيس جديد للحكومة وفق الأطر الدستورية الناظمة، وعندها سيجد السنّة أنفسهم أمام تحدٍّ آخر، هو تحدّي الحفاظ على الصلاحيات وعلى الدور خاصة في ظل ما يسمّيه  - البعض في لبنان - «تغوّل» فريق السلطة ومحاولة الاستحواذ على كل مقاليد الحكم، وتوسّع نفوذ «حزب الله» إلى كل دوائر القرار، وعمله لإضفاء شرعية على سلاحه وعلى ما يعتبره البعض «هيمنته» من خلال النص الدستوري وليس من خلال السلاح كما هو حاصل اليوم. 
اليوم المسلمون السنّة في لبنان شرعوا في العمل والتحضير لمواجهة هذه التحدّيات وهم يدركون حجمها ومخاطرها، فجاءت المشاورات التي أجراها مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان على نطاق واسع مع قيادات وشخصيات إسلامية ووطنية، ثم تزامنت هذه المشاورات مع حركة اتصالات ولقاءات كثيفة أجرتها العديد من القوى السياسية السنّية بين بعضها ومع أطراف أخرى في الساحة اللبنانية، ومن ثم الموقف شبه الموحد الذي جرى تبنّيه في أوساط المسلمين السنّة ومفاده رفض الانزلاق إلى مواجهات فتنوية داخلية يدفع ثمنها اللبنانيون عامةً، وربما شباب السنّة خاصة في ضوء التجربة السورية واليمنية والعراقية، وبعد ذلك يجري بيعهم أو التخلّي عنهم عند أول صفقة يمكن أن تعقد بين الأطراف، وبهذا المعنى أكدوا رفضهم أن يتحوّل لبنان إلى ساحة لتصفية الحسابات والصراعات الإقليمية، بما في ذلك ما بين إيران والسعودية، فضلاً عن تأكيدهم الدائم أنهم ضد أي عدوان إسرائيلي يستهدف بلدهم. 
وأما على الجانب الآخر، فإن حركة الاتصالات واللقاءات تكثّفت أيضاً خلال الأيام الماضية التي تلت الاستقالة لبناء موقف موحد على مستوى المسلمين السنّة من مسألة تكليف أي رئيس للحكومة المقبلة، أو تشكيل أية حكومة جديدة، وذلك من أجل قطع الطريق على أي مشروع يستهدف دورهم الوطني، ويسعى إلى تقليص حجم وقوة تأثيرهم في صناعة القرار اللبناني، ويمكن القول إن مسافة كبيرة وشوطاً كبيراً قطع في هذا السياق، من أجل بناء هذا الموقف، لإدراكهم أن انهيار التوازن القائم بين المكوّنات قد يجرّ البلد إلى مربع الفوضى الذي لا أحد يريده. 
تبقى مسألة، أن هذه الأزمة التي عصفت بلبنان يمكن أن تشكّل فرصة لإرساء مزيد من الاستقرار والهدوء فيه، وذلك من خلال إعادة إنتاج تسوية جديدة تضمن ما قامت عليه التسوية التي أنهت الفراغ الرئاسي، وتزيد إليها وضع سقف زمني لحل ما يعتبره البعض مشكلة السلاح غير الشرعي في لبنان.}