وائل نجم

منذ بضعة أشهر، يجري الحديث في الأروقة السياسية وفي أوساط أهالي الموقوفين والمحكومين في السجون اللبنانية، عن مشروع قانون عفو عام يصدره المجلس النيابي، وقد تصاعد الحديث عن العفو بُعيد انتخاب العماد، ميشال عون، رئيساً للجمهورية، على اعتبار أنه يبدأ عهده بانفتاح وصفحة بيضاء مع الجميع، إلا أن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل حتى الساعة.
مؤخراً وعلى أعتاب الاستحقاق الانتخابي النيابي، عاد الحديث من جديد عن قانون العفو العام. فقد تطرق رئيس الحكومة، سعد الحريري، خلال كلمته في ذكرى اغتيال والده في  14 شباط إلى الموضوع، ووعد بالعمل على استصدار قانون عفو عام يشمل الموقوفين «ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء». وكذلك أفرَد رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، في برنامج كتلة التنمية والتحرير حيّزاً لملف المحكومين والموقوفين، ووعد بالعمل على استصدار عفو عام يشملهم، وبالطبع أيضاً، لا يشمل من اعتدى على مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية. هذا فضلاً عن أن أهالي الموقوفين الإسلاميين لم يتوقفوا يوماً عن الحركة والاحتجاج والمطالبة بإصدار عفو عام عن أبنائهم.
لا شكّ في أن إثارة هذا الموضوع، والعمل عليه على مشارف وأبواب الانتخابات النيابية، يُعدّ نوعاً من الاستغلال، بل «الرشوة الانتخابية»، لكن على الرغم من ذلك، فإنه بالنسبة إلى ذوي الموقوفين الإسلاميين تحديداً، ليس مهمّاً، لأنهم يدركون أن مظلومية أبنائهم في هذا البلد الذي يتغنّى بالديمقراطية والحرية وسيادة القانون ونزاهة القضاء، لن تنتهي إلا من خلال هذا الطريق، أي العفو العام الذي يشمل غيرهم من الذين صدرت بحقهم أحكام في قضايا مختلفة كالمخدرات والتعامل مع العدو، فيما لم يصدر بعد أي حكم قضائي بحق مئات الموقوفين بشبهة ما يُعرف بـ«وثائق الاتصال». وهنا يُطرح سؤال عن شفافية الانتخابات ونزاهتها مع هذا الاستغلال الرخيص لمثل هذا الملف! وتسخيره وتوظيفه في خدمة أهداف وتطلعات القوى السياسية التي تحاول كل منها استغلال جانب منه، واحدة من خلال المتاجرة بمشاعر ذوي المحكومين والموقوفين، وأخرى من خلال اللعب على وتر المؤسسات والدفاع عنها وعدم الرضى بأي مسّ يلحقها!
والحقيقة، بعيداً عن ما يتمنّاه أهالي الموقوفين تحديداً من إصدار هذا العفو لإطلاق سراح أبنائهم، فإن الأمر الطبيعي في البلدان التي يسود فيها القانون، ويجري فيها الاحتكام إليه وإلى القضاء، أن تجري مقاضاة كل من يثبت تورّطه في أية جريمة تمسّ المواطنين كأفراد، أو أمن واستقرار المجتمع كمجتمع متكامل، وأن ينال كل مرتكب ما يستحقّه من عقاب، وأن يُطلَق سراح وحرية كل من لم يُثبَت جرمه ومشاركته بأية جريمة، حتى يكون العدل سيّد الأحكام، وفيه استقرار المجتمعات واستمرار الحكومات. أمّا أن يوقَف المواطنون على الشبهة إدارياً، كما تفعل سلطات الاحتلال الإسرائيلي مع المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، أو احتياطاً، فإن ذلك هو الظلم بعينه، وهو المعمل الأساسي والمصنع الرئيسي لإنتاج ما يُسمّى اليوم «الإرهاب». وأضيف إلى ذلك القول: إن مكافحة ومحاربة الإرهاب الذي تدّعيه بعض الحكومات، يَفترِض ملاحقة المشاركين في هذه المعامل والمصانع وجوداً وإدارة وإسهاماً، لأنهم الجهات والأشخاص الحقيقيون الذين ينتجون «الإرهاب» ويروّجون له، ويفسدون المجتمعات به. إن منطق العدل هو في ترك القضاء يأخذ مجراه مع كل حالة، وإنصاف الناس في حقوقهم دون استغلال مشاعرهم أو حتى حياتهم.
أمّا الأمر الآخر، فتكمن خطورته في إطلاق سراح مئات المحكومين، وليس المتهمين، بصناعة المخدرات وزراعتها وترويجها، الذين يفسدون المجتمعات، ويشكلون خطراً حقيقياً على الأجيال الناشئة، محلياً وخارجياً. وكذلك إطلاق سراح الذين خانوا وطنهم من خلال التعامل مع العدو، فقتلوا معه من أبناء الوطن، وباعوا أسرار البلد إليه، ووقفوا بصفّه مقابل حفنة قليلة من الدولارت أو الأوهام، ومع كل ذلك يجري الحديث عن إطلاق سراحهم من خلال العفو العام، ولا يُطرح السؤال، ولو لمرّة واحدة، وماذا بعد العفو العام لمثل هؤلاء؟!
أخطر ما في الأمر أن الحديث عن العفو العام اليوم يجري ليشمل تجار المخدّرات والخونة الذين باعوا وطنهم للعدو، والمحكومين بهذه الجرائم، ولا يشمل الموقوفين زوراً بتهم واهية تحت عنوان «الإرهاب»، في حين أن الجميع يدرك حجم التآمر الذي حيك لكثير من هؤلاء، ويدرك أيضاً أن كثيرين منهم يقبعون في السجون ظلماً وعدواناً. وإذا ما تمّت خطوة العفو العام بمثل هذه الطريقة، فإن ذلك لا يعني إلا شيئاً واحداً، بعيداً عن مسألة الاستغلال الانتخابي، يعني مؤامرة جديدة على هذا البلد، ودفعاً جديداً لشرائح فيه من أجل شيطنتها، وتالياً التخلّص منها، والمسؤولية الأساسية في منع ذلك أو إقراره تقع على عاتق الموجودين في سدة المسؤولية، فإما أن يكون العفو شاملاً، وإما ألّا يكون.}