العدد 1376 / 4-9-2019

تعيش إسرائيل حالة من القلق تصل إلى درجة الرعب، وهذا القلق ملموس يمكن أن يراه من يراقب المشهد في المنطقة، ويلحظه من يتفحص ما يجري، إذ أصبحت حالة الرعب الإسرائيلية هي التي تُهيمن على القرار الإسرائيلي، وتسيطر على مطبخ صنع القرار.

خلال الأسابيع القليلة الماضية قصفت إسرائيل ثلاث دول عربية، وتبين أنها تبعث بطائراتها المسيرة في كل مكان وبكل الاتجاهات، الذي انكشف من هذه الطائرات والأدوات التجسسية ليس سوى الشيء اليسير، مما يتم إرساله بكل تأكيد، كما أن لدى إسرائيل أدوات أخرى أيضا، ابتداء من شبكة الاستخبارات التقليدية، إلى عمليات القرصنة الإلكترونية والتجسس على الإنترنت، ووصولا إلى الأقمار الصناعية في السماء.. ما يعني في نهاية المطاف أن الإسرائيليين في حالة استنفار قصوى، ويحاولون مراقبة كل ما يجري في المنطقة العربية من حولهم، بل حتى دبيب النملة يودون لو تمكنوا من رصدها.

صحيح أن الاعتداءات الإسرائيلية على المنطقة العربية متكررة، فالعراق الذي قصفته إسرائيل قبل أسابيع، كان قد تعرض للقصف قبل عقود، وكذا قطاع غزة الذي تزدحم سماؤه بطائرات التجسس المسيَّرة، لطالما ازدحمت أرضه أيضا بالرصاص والقذائف وحمم الموت، لكن الموجة الأخيرة من الهجمات الإسرائيلية على جبهات مختلفة، والهلع في الرد على الهجوم الأخير لحزب الله ، يؤكد حالة القلق الإسرائيلية والرعب مما يجري، بل أن العملية الأخيرة لحزب الله كان من الممكن أن تشعل حربا مع إسرائيل، لولا أن القلق الإسرائيلي الراهن يدفع تل أبيب إلى الخشية من الانشغال في أكثر من جبهة. حالة الرعب الإسرائيلي والقلق والاستنفار في التجسس على كل شبر في المنطقة العربية مرده إلى جملة من الأسباب، التي يمكن بالتحليل إجمالها في ما يلي:

أولا: تُدرك إسرائيل اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن حلفاءها في المنطقة العربية، وهنا نتحدث عن الحلفاء في السر، الذين لطالما قدموا لها الدعم والولاء على مدى السنوات والعقود الماضية، تُدرك بأنهم بدؤوا يتقهقرون وأن مشاريعهم بدأت تفشل، والحروب التي خاضوها لم تزدهم إلا خيبة فوق خيبتهم، ولذلك فإنها تخشى من سقوط عروشهم قريبا، أو على الأقل إن ظلوا في عروشهم فإن الانتكاسات التي منوا بها تجعلهم أضعف من أن يواصلوا تقديم الخدمات لإسرائيل، سواء خدمات الحروب بالوكالة أو خدمات تمويل الثورات المضادة.

ثانيا: تنكفئ الولايات المتحدة، التي هي الراعي الأساس لإسرائيل والحامي لوجودها، على المستوى الدولي عموما، وفي منطقتنا على وجه الخصوص، وهذا ليس جديدا إذ يعود لسنوات خلت، لكنه يظهر ويتعمق أكثر فأكثر، فخلال الأزمة السورية بدا واضحا أن واشنطن لم تعد تملك الكثير من أوراق اللعبة في المنطقة، وليس لديها القدرة على التصدي لروسيا التي عادت للعب دور دولي كبير، وتجلى الانكفاء الأمريكي مؤخرا من جديد في الأزمة مع إيران، عندما أطلق الرئيس دونالد ترامب تهديداته لطهران، ليكتشف العالم بأنها "تهديدات تويترية" لم تتجاوز شبكة الإنترنت.

وبطبيعة الحال، من المعلوم أن الخروج الأمريكي من المنطقة بدأ في أعقاب فشل "المحافظين الجدد" في مشروع احتلال العراق الذي تحول إلى كارثة على الأمريكيين، حيث دخل الجيش الأمريكي بغداد ومديونية بلاده العامة 5.3 تريليون دولار، وخرجت الولايات المتحدة من العراق وهي تسجل أكبر مديونية في التاريخ البشري بنحو 17 تريليون دولار.

ثالثا: تتصاعد وتيرة القلق الإسرائيلي بسبب التوسع الإيراني غير المسبوق في المنطقة، وشعور الإيرانيين بالنصر في كافة الجبهات، وهو التوسع الذي عبَّر عنه أحد قادة الحرس الثوري مؤخرا بالقول إن "خمسة جيوش في المنطقة تقف إلى جانبنا عقائديا ومعنويا". ما يعني أن إيران تعيش نشوة الانتصار، وليس هذا فقط، بل إنها تشعر بحالة ارتياح واسترخاء، بسبب أنها تستطيع خوض الحروب التي تشاء عبر دول أخرى، وتستطيع أيضا تحقيق النصر فيها. وهذا التوسع الإيراني يُمثل بطبيعة الحال التهديد الأكبر للإسرائيليين ويتسبب بقلق غير مسبوق لهم.

خلاصة القول هو أن إسرائيل تدرك أكثر من غيرها أن مسار الأحداث في المنطقة العربية لا يسير بالاتجاه الذي تتمناه، وأن حلفاءها وعملاءها والذين كانوا يتسابقون على التطبيع في تل أبيب قبل فترة قليلة، أصبحوا يتساقطون في الحروب الفاشلة التي خاضوها، تلك الحروب التي انتهت بخسارتهم سياسيا وعسكريا، بعد أن خسروا أموالهم، ولم يعد بمقدور هؤلاء الحلفاء أن يقدموا الحماية لأنفسهم، فضلا عن حماية إسرائيل، وفي الوقت نفسه فإن المشروع المضاد هو الذي يتوسع وينتصر وله الغلبة في نهاية المطاف.. ولذلك كله تشعر إسرائيل بالقلق البالغ، وتستنفر كل إمكاناتها لمراقبة كل ما يمكن رصده ومراقبته، وتهاجم كل ما تعتقد أنه من الممكن أن يهدد أمنها.