العدد 1464 /2-6-2021

تتعدّد التحذيرات الدولية من خطورة الأزمة في لبنان والتقارير التي تنبّه من تداعيات تدميرية شاملة. آخر هذه التقارير وأخطرها ما صدر عن البنك الدولي يوم الثلاثاء الماضي ، بأن "لبنان يغرق"، ويرجح أن تحتل الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان مرتبة من الثلاث الأولى من الأزمات الأكثر حدة على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

ووفقاً لتقرير "المرصد الاقتصادي اللبناني" لربيع 2021 الصادر عن البنك الدولي، فإنّ الناتج المحلي الإجمالي للبنان انخفض من نحو 55 مليار دولار عام 2018 إلى 33 مليار دولار في 2020، كما انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 40% تقريبًا. وحذر التقرير من أنّ الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها لبنان "تخاطر بفشل وطني شامل له عواقب إقليمية وعالمية محتملة". ويرى التقرير أنّ "حجم الكساد الاقتصادي الذي يعاني منه البلد، مع عدم وجود نقطة تحول واضحة في الأفق، هو بسبب التقاعس الكارثي المتعمد في السياسة".

وأكد التقرير أنّ الطبقة العاملة التي تتقاضى راتبها بالليرة هي الأكثر تأثراً بالتراجع البالغ في قدرتها الشرائية. وقد أظهرت مسوحات أجراها برنامج الأغذية العالمي عبر الهاتف في أواخر 2020 أنّ 41% من الأسر يصعب عليها الحصول على المواد الغذائيّة وسدّ حاجاتها الأساسيّة الأخرى.

وارتفعت نسبة الأسر التي تواجه صعوبات في الحصول على الرعاية الصحيّة من 25% إلى 36%، كما أن معدّل البطالة ارتفع في صفوف المشمولين بالمسح، فانتقل من 28% قبل كوفيد 19 إلى حوالى 40% في نهاية كانون الأول الماضي. وأثّرت تقلّبات سعر صرف الليرة اللبنانية على الأسعار، ممّا أدّى إلى زيادة التضخّم ليبلغ 84.3% في عام 2020. ووصل سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، في تعاملات الأسبوع الماضي، بالسوق الموازية إلى 13000 مقابل الدولار الواحد. وقدَّر التقرير تقلّص نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 20.3% في عام 2020، إثر تقلّص بنسبة 6.7% في عام 2019، كما تعرّض قطاع السياحة إلى ضربة قويّة بشكل خاص، ناجمة إلى حد بعيد عن كوفيد 19؛ وتراجع عدد المسافرين الوافدين بنسبة 71.5%.

ويسلّط التقرير الضوء على محركين اقتصاديين محتملين قيد التدقيق المتزايد، يمكن أن تكون لهما انعكاسات اجتماعيّة ملحوظة، وهما دعم الصرف الأجنبي في لبنان للواردات الأساسيّة والمهمّة، والذي يشكّل تحديًا اجتماعيًّا وسياسيًّا جدّيّاً. والثاني هو وقع الأزمات على أربع خدمات عامة أساسيّة وهي الكهرباء، وإمدادات المياه، والصرف الصحي، والتعليم.

ويهدد الافتقار الحاد للعملات الأجنبيّة بإنهاء عقود القطاع الخاص لصيانة محطات توليد الطاقة الكهربائيّة وتوليد الطاقة المؤقت. وفي الوقت نفسه، تتقلّص إيرادات شركة كهرباء لبنان، التي هي بالليرة اللبنانيّة، بسبب الخسائر الفنية والتجاريّة المتزايدة وتلك المرتبطة بالجباية.

ويُتوقَّع أن تزيد مؤسسة كهرباء لبنان من فترات التقنين في التغذية بالتيار الكهربائي لإدارة القصور في تدفقاتها النقديّة.

يتوقف المستشار الإقليمي السابق في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) وخبير التنمية المستدامة الدكتور أديب نعمة، في حديثه مع "العربي الجديد" عند ثلاث نقاط أساسية في التقرير الصادر عن البنك الدولي.

النقطة الأولى، بحسب نعمة، طريقة استعراض الأزمات منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، وسط ترجيح بأن الأزمة اللبنانية تحتل مرتبة من الثلاث الأولى من الأزمات الأكثر حدة على مستوى العالم، ما يدلّ على حجم الأزمة الكبير على النطاق العالمي وعلى امتداد 150 سنة وأنها ليست عابرة أو صغيرة ومن النوع الذي يمرّ بمرور الزمن، لافتاً إلى أن الخطورة تكمن أيضاً في أنّ أزمة بهذا الحجم يصار إلى التعامل معها من قبل "مسؤولين غير مسؤولين" بسياسات تافهة، واستخفاف كبير وبأسلوب تمرير الوقت وتهدئة غضب الناس بخطط معيشية مضللة. ويضيف نعمة: "النقطة الثانية البارزة، تتمثل في أن البنك الدولي ذكر في التقرير السابق أن الكساد الاقتصادي متعمّد، وها هو يؤكد من جديد على هذا الواقع، وأن الممسكين بالقرار الفعلي والرسمي في لبنان سياسياً ومالياً ومصرفياً وليس فقط من هم في الحكومة، لا يتبعون سلوكاً ناتجاً عن جهل أو غياب معرفة لا بل يشدد التقرير على أن هناك منتفعين من الوضع وما زالوا حتى اللحظة مستمرّين في السياسات نفسها والإجراءات السابقة للانتفاع بالحد الأقصى من الأزمة من دون الأخذ بعين الاعتبار الآثار الخطيرة والهيكلية البعيدة المدى التي تحصل وقد تحصل في المستقبل، وبالتالي، إن السياسات مقصودة ولا تنم عن عجز بالمعنى التقني وهذا خطير جداً". وهذه النقطة الثانية تأخذنا الى الثالثة وفق ما يؤكد نعمة، وهي "لبنان يغرق"، الأمر الذي يدل على حجم الخطورة، بمعنى أن المسألة لم تعد تقتصر على أضرار جانبية أو ثانوية، بل غرق وعندما يطول لدقائق يعني انعدام القدرة على الإنعاش ولا مجال للإنقاذ.

وحذر نعمة أيضاً من المؤشرات الاقتصادية المضللة التي توحي بحصول تحسّن في أماكن معيّنة، فيما هي في الحقيقة ناتجة عن تراجع الاستهلاك والاستيراد والنمو وتخفيض العجز التجاري وما إلى ذلك، متوقعاً أن يستمر الانهيار لأن العلاجات المطلوبة يجب ألا تكون جزئية أو لإضاعة الوقت أو عبارة عن ألاعيب كاذبة ومضللة كمنصة مصرف لبنان والبطاقة التمويلية التي ما هي إلا نشاط انتخابي بحت تستخدم أيضاً لمحاولة تأجيل الانهيار الشامل وتصرف كلها مع سياسات الدعم والترشيد من ودائع الناس، بل بإجراء إصلاحات هيكلية سريعاً واتخاذ خطة تحمل خيارات سياسية واضحة للنهوض.

ويتحدث نعمة عن طريقة تعامل دول عدة مع الأزمات الشبيهة، منها أيرلندا واليونان وقبرص التي اعتمدت إجراءات حقيقية بكيفية توزيع الخسائر على الفئات الاجتماعية، ولم تحمل العبء الأكبر من الخسائر بالدرجة الأولى للشعب، بل لأصحاب الودائع والثروات الكبيرة واتخذ القرار بشكل علني وعادل وشفاف.

وشدد نعمة على أن المطلوب هو حل يبدأ بمعالجة المشكلة الحقيقية ووضع خطط جدية للنهوض الاقتصادي والمعالجات المالية بأخذ بعين الاعتبار حقوق الأغلبية من السكان ودفع المستفيدين والمنتفعين ثمن الخسائر، كما حصل في دول أخرى مرّت بأزمات شبيهة واتخذت إجراء بكيفية توزيع الخسائر على الفئات الاجتماعية من دون تحميل العبء الأكبر منها للمواطنين بل لأصحاب الودائع الكبيرة والثروات، واتخذ القرار بشكل علني وعادل وشفاف.

من جهته، يقول أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت والمشرف على مرصد الأزمة، ناصر ياسين، لـ"العربي الجديد"، إن تقرير البنك الدولي يُظهر مدى كلفة عدم إدارة الأزمة بالشكل السليم وغياب إجراءات جدية وحقيقية، ولا سيما منذ أكثر من سنة التي كان من شأنها التخفيف أقله من حجم الكارثة. ويشير ياسين إلى أن تأثيرات انكماش الاقتصاد اللبناني وتراجع الناتج المحلي من 55 مليار دولار أميركي إلى 33 مليار تقريباً العام الماضي ستكون كبيرة وخطيرة ربطاً بنسبة البطالة، وأعداد العاطلين عن العمل، وإقفال المؤسسات، ما يعني أيضاً تراجع الاستهلاك، مشدداً على أن الاستمرار في اتباع سياسات وقرارات على القطعة وعدم البدء بتصحيح اقتصادي شامل سيؤدي إلى مزيد من الخسائر. ويشير ياسين إلى أننا للأسف ذاهبون إلى مكان أكثر خطورة، سواء بتداعيات سياسة الدعم التي ستتخذ على السلع الأساسية، ولا سيما الدواء والمحروقات والطاقة، مقابل ضعف كبير في مالية الدولة، ما سيرتد سلباً على التقديمات الاجتماعية والصناديق الداعمة التي ستضعف قدرتها إلى جانب تردي الخدمات العامة التي قد لا تصل إلى الناس، عدا عن لجوء المواطنين وخصوصاً اليد العامة إلى الهرب والهجرة وهنا أخطر الأزمات.