وائل نجم - كاتب وباحث

وائل نجم – كاتب وباحث
الاستحقاق الانتخابي البلدي المقرر في محافظتي الشمال وعكار يوم التاسع والعشرين من الجاري بدأت تتظهر ملامح اليوم الانتخابي فيه، وشكل التحالفات، وربما النتائج المتوقعة، ولعلّ أبرز مناطق هذا اليوم الانتخابي مدينة طرابلس، العاصمة الثانية، وبعض المدن والبلدات الأخرى في الأقضية المختلفة. وتكمن أهمية الاستحقاق البلدي في مدينة طرابلس باعتبارها العاصمة الثانية للبنان، وباعتبار وجود مجموعة من النواب والوزراء من المدينة، وباعتبار التنافس القائم بين مرجعياتها السياسية، إذ يتقاسم النفوذ فيها كل من: «تيار العزم» الذي يترأسه الرئيس نجيب ميقاتي، و«تيار المستقبل» الذي يجمع بعض نواب المدينة، والوزير محمد الصفدي الذي ينشط من خلال بعض المؤسسات الأهلية، والجماعة الإسلامية التي لها تاريخ عريق في المدينة فضلاً عن حضورها من خلال مؤسساتها كمدارس الإيمان، ومستشفى الشفاء وغيرها من المؤسسات الأهلية الأخرى، وهناك ايضاً التيار الإسلامي بشكل عام، الذي يتوزع على شخصيات مستقلة، ومجموعات سلفية، وهيئة العلماء المسلمين، وهناك أيضاً المرجعية الدينية المتمثلة بدار الفتوى والمفتي الشيخ مالك الشعار، وقد برزت أخيراً شخصية الوزير اللواء أشرف ريفي الذي أخذ مواقف لاقت استحسان أهل المدينة، ولامست همومهم وتطلعاتهم، فضلاً عن خدماته عندما كان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي، وهناك آل كرامي بمختلف بيوتهم، ولهم حيثية لا يستهان بها، وجميع هذه القوى موجودة في المدينة ولها تأثيرها وحضورها، وهي مشاركة أو ستشارك في الاستحقاق الانتخابي بشكل من الأشكال. 
المزاج العام الطرابلسي كما في كل لبنان، ولا سيما في الساحة الإسلامية، يجنح نحو التوافق بين القوى السياسية لتجنيب المدينة معركة كسر عظم، خاصة في هذه المرحلة التي يشهد فيها البلد اصطفافات حادة على خلفيات متعددة، إلا أن هذه الرغبة عند أهل المدينة، لا تعني أبداً العودة بهم إلى مربع المحاصصة السيئة الصيت التي جنت على المدينة الويلات، وعطّلت المجلس البلدي فترة طويلة من الزمن دفع ثمنها بشكل أساسي أهل المدينة. المزاج العام الطرابلسي يريد التوافق بين القوى والشخصيات الموجودة والمؤثرة، ولكن ليس على حساب العمل والإنماء والخدمات. فقد جرّب أهل طرابلس المحاصصة التي قام عليها المجلس البلدي الحالي، وكيف تم تعطيل العمل البلدي لفترة طويلة من الزمن، ثم كيف أُطيح الرئيس السابق نادر الغزال عندما توافقت القوى السياسية في المدينة، ولذلك فهو يرفض منطق المحاصصة الذي جرى العمل به المرة السابقة، ويريد مجلساً بلدياً بالتوافق على قاعدة العدالة، أو التوافق العادل الذي يرضي كل الأطراف من جهة، ويكون فيه أصحاب الكفاءات الذين يخدمون المدينة، ويحملون همّها،  ويرضي قبل ذلك وبعده أهل المدينة ويكون محل قبولهم وقناعتهم. 
لقد بدأت منذ فترة المفاوضات والمباحثات بين عدد من أقطاب المدينة من أجل انجاح أو إنجاز هذا التوافق، وفي هذا السياق جرى اللقاء في دارة رئيس الحكومة، تمام سلام، بين الرئيسين السابقين، نجيب ميقاتي وسعد الحريري، وربما جرت بلورة بعض المقترحات التي شكّلت أساساً لانطلاق عملية تشكل اللائحة التي ينبغي أن تكون توافقية. كذلك جرت عدة لقاءات في المدينة بين نوابها ووزرائها وشخصياتها الأساسية والقوى الرئيسية، وكان البحث في التوافق المنشود، إلا أن القلق هو في أن يتحوّل التوافق إلى مجرد عملية تحالفات يحتاج كل طرف فيها إلى غيره لتأمين الفوز لنفسه، وهنا تكون عملية محاصصة جديدة على قاعدة حصة كل طرف أو شخصية سياسية من دون نظر أو اعتبار لمصالح أهل المدينة، وقد جرى نقاش وجدل بعيداً عن الإعلام بين القوى الرئيسية على تسمية رئيس البلدية، وتمسك الرئيس ميقاتي بمرشحه في مقابل خيارات أخرى كانت للمستقبل ولغيره من الشخصيات والقوى، وهو بالطبع ما جعل الحديث عن التوافق مجرد «أكذوبة» وخدعة لأهل المدينة، وللقوى السياسية الأخرى التي عرض على كل منها أن تتمثل بعضو واحد في المدينة في وقت راحت القوى الأساسية تحاول الاستئثار والهيمنة على كامل المجلس البلدي من خلال عدد الأعضاء، وهو ما رفضته القوى الأخرى، وما متوقع أن يرفضه أهل المدينة على طريقتهم. 
لقد دعا الوزير اللواء أشرف ريفي أهل المدينة إلى رفض المحاصصة، ودعا المجتمع المدني إلى تشكل لائحة خاصة لخوض الاستحقاق الانتخابي، في وقت أعلنت فيه الجماعة الاسلامية في المدينة نيتها الشروع بالعمل لتشكيل نواة لائحة غير مكتملة وخوض الاستحقاق الانتخابي على هذا الاساس، وتحت عنوان العمل لخدمة أهل طرابلس وتوفير كل مقومات الحياة الكريمة لهم بعدما فشلت الطبقة السياسية في المدينة، واستأثرت بمواقع السلطة والقرار على مدى عقود من دون أن تقدّم للمدينة سوى الفتات القليل، في وقت كانت فيه محافظات أخرى على مستوى الوطن تنعم بكل أنواع المشاريع التنموية والخدمية، فيما أهل طرابلس يعيشون الحرمان، حتى غدت هذه المدينة العريقة أفقر مدن لبنان، فراح شبانها وأهلها يعتلون أمواج البحر باتجاه بلدان الاغتراب بحثاً عن لقمة عيش كريمة، فيما الطبقة السياسية التي تندفع اليوم في مشاريع المحاصصة لم تقدم سوى القليل من الخدمات التي تبقي على أولئك البسطاء الطيبين في قبضة تلك الآلة العجيبة التي تستأثر بكل شيء. 
كثيرون يظنون أن المعركة في طرابلس محسومة لتحالف القوى التي شرعت من جديد في محاصصة على حساب أهل المدينة، ولكن كثيرين ايضاً يعتقدون أن بإمكان أهل المدينة أن يغيّروا المعادلة من أجل مستقبل أبنائهم، وقد رأينا كيف أن مدن ومناطق أخرى في الاستحقاقات التي جرت بعثت برسائل ذات مغزى كبير لقوى سياسية أكثر عراقة وحضوراً وخدمات، وقالت من خلالها إننا نرفض بعد الآن أن نكون مجرد رعايا، فإرادتنا حاضرة وقرارنا هو الاختيار الحر.