وائل نجم

 عاشت مدينة صيدا ليلة الاثنين الثلاثاء الماضيين ليلة حقيقية من الرعب والخوف والقلق، بعد ان استباح مسلّحون مدججون بأصناف الأسلحة شوارعها وأحياءها فقتلوا وأحرقوا وأرعبوا ودمّروا وعاثوا خراباً بالمدينة وأمنها ووداعة أهلها، وكأنه لا دولة ولا قانون ولا مساءلة ولا محاسبة ولا قيمة للحياة ولا للناس ولا للكرامات ولا لأي اعتبار. كانت الهمجية والوحشية والخروج عن كل ما يمتّ إلى الانسانية بصلة سمة الذين تحركوا في شوارع المدينة وراحوا يطلقون النار على المارة ويكسّرون سياراتهم من دون أن يكون لأي من هؤلاء مجرد علم بالسبب. إنها ببساطة ثقافة القتل والقتال من أجل السيطرة والنفوذ على الاحياء التي تحوّلت إلى ساحة لتوزيع اشتراكات الكهرباء بالاسعار التي يريدها ويرتئيها هؤلاء المحتكرون، وتحوّل معها السكّان في تلك الأحياء إلى مجرد أسرى لأصحاب تلك المولدات التي تنفث السموم والدخان بين تلك البيوت المتواضعة، وربما المكدّسة فوق بعضها وإلى جانب بعضها.
لماذا تستباح صيدا بهذا الشكل وهذه الطريقة؟ ألا يكفيها أنه حكم على بعض أبنائها قبل أيام أحكاماً قاسية من دون إقامة أي اعتبار لأبسط معايير العدالة وفقاً لما رواه وكلاء الدفاع عن أولئك الابناء المحكومين؟! ألا يكفيها الحرمان الذي يصيبها وتعانيه؟! حتى تأتي هذه المجاميع من المسلّحين المدججين بالسلاح، ومن دون إقامة أي اعتبار للدولة وأجهزتها، ومن ثم العبث بأمن المدينة وحياة أهلها لمجرد الخلاف على مولدات توزيع الكهرباء؟ ولماذا تصل الأمور إلى هذا الحد وإلى هذه الحالة من الفوضى، هذا إذا سلّمنا جدلاً، كما قالت شخصيات المدينة، أن لا خلفية سياسية لهذه الاشكالات التي أودت بحياة أشخاص فضلاً عن ترويع الجميع.
الحقيقة التي لا ينبغي أن نقفز فوقها تكمن في مسؤولية الدولة والحكومة عن هذا الوضع الشاذ في تأمين الكهرباء للمواطنين وإنقاذهم من سطوة أصحاب المولدات الكهربائية الذين يتحكّمون بأسعار توزيع الكهرباء من دون حسيب أو رقيب. أين الدولة ونحن نسمع منذ سنوات طويلة عن خطط خمسية وغير خمسية لتأمين الكهرباء 24/24 ساعة وقد صُرف لأجل هذه الغاية في مجلس الوزراء مئات ملايين الدولارت، ولكن دون أن تتحسّن التغذية، ودون أن تنتهي الأزمة، حتى راح البعض يرمي بهذه الأزمة الفضيحة على شمّاعة وجود اللاجئين السوريين في لبنان. والحقيقة هي في الفضائح التي نسمع عنها يومياً، وآخرها فضيحة بواخر إنتاج الكهرباء التي أراد البعض أن يمرّرها خلافاً للقوانين المرعية الإجراء وذلك حتى تكون «الصفقة» لحساب أصحاب النفوذ، لا لمصلحة المواطن البسيط في هذا البلد. الحكومة تتحمّل جزءاً من دم الضحايا الذين سقطوا في إشكال صيدا لأنها السبب في وجود أصحاب المولدات ومشاكلهم.
أما الحقيقة الأهم والأبرز، فهي فوضى السلاح و«القبضايات» الذين يستعين بهم أصحاب المولدات وغيرهم من أصحاب المصالح التي باتت محتكرة ويستعملونهم للبطش بكل من يحاول أن يتلفظ ببنت شفة ضد مصالحهم، أو بمن يحاول أن يدخل على خط المنافسة خدمة للزبائن، مستقوين بالسلاح الخارج عن إطار المسؤولية والدولة، والعابث بأمن المجتمع، والمستخدم خارج إطار العنوان الذي يغطّيه. هؤلاء يجدون من يدافع عنهم، وينقذهم ويخرجهم من كل ورطة يقعون فيها، ومن كل مشكلة يفتعلونها، ومن كل اعتداء يقومون به على أي إنسان آخر. هؤلاء ما كان أحد منهم من أي طرف ليجرؤ على القيام بالقتل أو الحرق أو الاعتداء على أي منشأة خاصة أو عامة لولا أنه يعلم ويدرك أن هناك من سيقف معه وخلفه، وسيخرجه من «ورطته» كما تُخرج الشعرة من العجينة. لكل ذلك قام هؤلاء وأمثالهم بما قاموا به من حرق وقتل بدم بارد ومن دون أن ترف لأحدهم شعرة جفن، وكأن نفس الانسان المقتول أرخص بدل تزويد منزل باشتراك شهري للكهرباء.
والأهم من كل ذلك ذاك العنوان المقدّس الذي يحتمي به، ويستظلّ بفيئه أولئك القتلة غير آبهين لنتائج أفعالهم، لأنه من أمن العقاب أساء الأدب. ذاك العنوان المقدّس يتحمّل أصحابه، أو بالأحرى الذين يصادرونه ويحتكرونه ويوزّعون باسمه السلاح والفوضى والفلتان، وينتهكون باسمه أمن الناس وأمن البلد دونما اعتبار للقوى والأجهزة المولجة حفظ أمن الناس وحياتهم وأمن المجتمع واستقراره. هؤلاء في مكان ما شركاء في هذه المسؤولية حتى وإن حدثتنا الأخبار عن تدخل مباشر للجم تلك الاجواء التي سادت مدينة صيدا تلك الليلة السوداء.
لقد طفح الكيل، وبات من مسؤولية الدولة والاجهزة الأمنية وضع حد لتلك الفوضى العابثة بكل شيء، كما بات من مسؤوليتها العمل بمقتضى استعادة الثقة بالدولة وأجهزتها القضائية والأمنية والعسكرية من خلال سيادة منطق ومبدأ القانون والقضاء والعدالة حتى لا يكون هناك صيف شتاء تحت سقف واحد، وإلا فإن الناس قد يصلون إلى لحظة يكفرون فيها بالدولة وبكل شيء، وتخرج عن صمتها لا خوفها، وعن قناعتها بالدولة لا عجزها عن أخذ حقها بيدها، ولات حينها لحظة ندم.}