العدد 1431 / 7-10-2020
شادي أبو صبحة

هربوا من الحصار بحثاً عن لقمة العيش في عرض البحر، ركبوا أمواجه المتلاطمة ينشدون ولو كسرة خبز يابسة مغمسة بالملح، فقد صنعوا مركبهم الصغير من تعب السنين، وحسرات الماضي ودموع المحبين، صنعوا مركباً صغيراً يتسع لكل الحالمين ويشبه قصور الملوك وعروش السلاطين، لا تجد فيه سوى البساطة وقلة الراحة للصيادين، مكان ضيق لكنه يتسع لألمهم وفرحهم وحلمهم وضحكاتهم البريئة.

مركب أجمل وأبهى من بيوت البلهاء في تلك الجمهورية السعيدة هناك بين نجمة داوود وبين عباءة القاضي البائس ومن حوله من العسس والغارقين في وحل العروبة بعضهم يلهج بالغناء وآخرون يقرؤون المعلقات على أستار الكعبة من حين لآخر ويمنون أنفسهم بجرعة ماء مع اللاهين من الأغنياء وأصحاب العمائم والعابثين والزاهدين إلا من الملوك والأوغاد.

ركب الأشقاء الثلاثة قاربهم وذهبوا للبحث عن رزقهم، لكنهم لم يعلموا أن رحلتهم ستكون الأخيرة، فقد أبحر مركبهم في بحر لجي بالقرب من حدود (الأشقاء) لتتجسد صور العسر والشقاء هذه المرة على شاطئ العروبة المرسوم بالدم، وبدلا من أن تمطر السماء عليهم رحمة تغيثهم يمطرهم جنود الأرض رصاصا يسرق الأحلام أولا ثم يقتل الأرواح الحزينة دون رحمة أو ضمير، يستشهد إنسانان، يستشهد الصيادان الفلسطينيان حسن ومحمود ويصاب أخوهما ياسر الزعزوع بأيد مصرية.

بدأ شهداء البحر يسردون فيما بينهم ذكريات الشقاء ويتبادلون أطراف الحكايات، ويحلمون بكسبهم مع بزوغ فجر كل يوم جديد يعدون فيه لركوب مطايا البحر ليستقر بهم عند متاع كسرة يابسة أو سمكة بائسة، فهذا أصغرهم يحدثهم عن أحلامه التي سيحققها عند عودته سالماً إلى أمه الثكلى، يحمل بين ضلوعه قصص أخويه على متن المركب وصورا من الماضي القريب ورائحة المسك التي لا تزال حاضرة مع كل مجداف يحوم في الماء وكل كسرة خبز يابسة أو نقيع من الألم المحشو في الصدور، وسيرة من ركبوا البحر وتحملوا الصعاب من أجل العيش بكرامة.

الموج الغاضب لا زال يهدر بينما صوت الرصاص يضج في المكان، ومع غروب الشمس عاد المركب المحطم أدراجه إلى البيت الحزين؛ ربما عاد بعضهم أو جميعهم، ربما دفنوا من مات في طريق العبور وعاد الباقون

ينطلق مركبهم نحو المجهول، ويسير مع الريح نحو الفراغ، وأنغام الطلقات تدوي في المكان، وصوت عبرات الرياح تدجج أذانهم، ويحكي الرحالون آخر حكاياتهم لأخيهم الصغير قبل أن يلفظوا أنفاس الوداع الأخيرة، حكايات كانوا يخفونها في صدورهم بهدوء وسكينة، طمعاً ببقائها وقتا أطول كالمعلقات تطرب من يسمعها وتريح من يغنيها فلا يذوق مرارة الساعات التي قضاها محمود وحسن وياسر على مركبهم الصغير. الرصاص يتزايد تطايراً والمركب يتمايل ودخانه يزداد تصاعداً، والموج يزيد نفيره غضباً ورائحة الموت تقترب من الإخوة الثلاثة، وصغيرهم يستمر في مسامرة الشهداء، في رحلة بحثهم عن صيد وفير، وهناك في مكان ما حيث يعقدون القمة العربية، يصدح الطغاة ويتفاخرون بحصارهم لغزة، وتطويقهم أحلام البسطاء فيها، وقتلهم كل أمل في الحياة، ولا تزال الشمس الحارقة تلفح وجها أخويه اللذين غطتهما الدماء، والمركب يرتطم بالطلقات والأصوات تتعالى والأيدي تتعارك مع الأمواج المتلاطمة أملا في النجاة، لكنهم غطوا في سبات عميق… لعله يخفف من وطأة التعب والإرهاق الذي تعرضوا له منذ ولدتهم أمهم على هذه الأرض الحزينة.

الموج الغاضب لا زال يهدر بينما صوت الرصاص يضج في المكان، ومع غروب الشمس عاد المركب المحطم أدراجه إلى البيت الحزين؛ ربما عاد بعضهم أو جميعهم، ربما دفنوا من مات في طريق العبور وعاد الباقون، ربما حلقت أرواحهم مودعة أمهم وأباهم. حكاية سيرويها من عاد بجراحه لتعيش طويلا بين من فقدوا أحبتهم وانتهت حكاياتهم، وباتت غزة ليلتها حزينة على من فقدت من أبنائها، وسكن الشاطئ فلا أمواج وسكت صوت الرصاص، وانتهى ياسر من دفن أخويه ورفيقي دربه الشهيدين محمود وحسن، لينتهي عناء العيشِ لمن خاضوا عباب البحر وتهدأ أرواحهم وتبرد نار قلوبهم ودماؤهم الزكية.