الشيخ محمد حمود

كانت نسيبة بنت كعب من السابقين الأوائل الى الاسلام، فقد أسلمت على يد مصعب بن عمير، ونذرت نفسها وزوجها وولديها لرفع راية الاسلام وإعلاء كلمة الله، وجادوا بالكثير من دمائهم في سبيل هذا الهدف.
لم يكن خروج أم عمارة الى ساحات القتال ضد المشركين من أجل سقي العطاش وتضميد الجراح، بل من أجل إرواء سيفها من دمائهم، والذود عن رسول الله ضد الأخطار، والعودة بأكاليل الغار، بعد تحقيق الانتصار، فبوركت من شُجاعة وقّفت نفسها لتحمي الذمار.
شهدت أم عمارة وأسماء بنت عمرو بن عدي بيعة العقبة الأولى، وكانتا المرأتين الوحيدتين من بين ثلاثة وسبعين رجلاً.
بدأت مسيرتها مع الجهاد يوم أحد، وكانت حاجزة ثوبها على وسطها، حتى جُرحت ثلاثة عشر جرحاً، بل لما نادى منادي رسول الله الى حمراء الأسد شدّت عليها ثوبها كي تخرج مع الجيش، لكنها ما استطاعت من شدة نزف الدم منها.
يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم في يوم أحد، وبعد ان انكشف الناس عنه ولم يبق الّا بعض الرجال، يقول صلوات ربي وسلامه عليه: ألتفت يمنة فأجد أم عمارة تذود عني، ألتفت يسرة أم عمارة تذود عني، فقلت من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة، تمنّي يا أم عمارة، سليني. فقالت رضي الله عنها: نسألك مرافقتك في الجنة يا رسول الله، فقال لها أنتم رفقائي في الجنة.
هنيئاً لها، سمعت الأوصاف والأخبار، فشمّرت وصدّقت الأقوال بالأفعال، علمت أن السلعة غالية فقدّمت الثمن من الأنفس والأولاد والأموال، لأن الله اشترى وهي باعت، والثمن الجنة، وأي شيء أثمن من الجنة.
وإلى جانب دورها البطولي في المعارك، وشرف الدفاع عن رسول الله |، كانت أم عمارة تقوم بواجبها الإنساني في تمريض المجاهدين، حيث كانت تحمل الأربطة على وسطها، وكلما أصاب أحد المجاهدين جرح، جرت إليه وضمّدت جراحه، وطلبت منه أن ينهض بسرعة ليستأنف الجهاد في سبيل الله.
وكما فعلت مع الجميع، فعلت مع ابنها الذي جرح في أحد، وقالت له بعد أن أسعفت جراحه: قم وانهض إلى الجهاد، وعندما شاهد النبي | ما أصاب ولدها، أشار إلى أحد المشركين وقال: هذا ضارب ابنك، فسارعت إليه وضربته في ساقه فوقع على الأرض وأجهزت عليه.
وهكذا غيّرت أم عمارة القاعدة التي تقول: إن الحرب والجهاد شأن من شؤون الرجال، لا تستطيع النساء المشاركة فيه، أو تحمل أعبائه وقسوته، وأكدت عملياً أن ساحة الجهاد والكفاح تتسع للرجال والنساء، فالكل يستطيع أن يؤدي واجباته، دفاعاً عن دينه ووطنه وكرامته. ولكم أن تراقبوا حفيدات أم عمارة في ساحات الجهاد والكفاح في فلسطين وسوريا، اللواتي تخرّجن من مدرستها في التفاني للدفاع عن الدين والوطن والكرامة.
ولم يتوقف جهادها رضي الله عنها حتى بعد وفاة رسول الله، فلما ارتدّ الأعراب في عهد الصدّيق، عزم على قتالهم، فاستأذنته وخرجت في جيش خالد ابن الوليد لمحاربة كذّاب اليمامة مسيلمة، في المعركة التي أسِر فيها ابنها حبيب، وتم إعدامه أمام الملأ بعد أن قطعوا جسده قطعة قطعة، على أن يرجع عن دينه وما فعل، بل ثبت قبل استشهاده ثباتاً عجيباً، والأعجب ثبات الأم المربية أم عمارة، التي قالت بعد سماعها نبأ استشهاده: لمثل هذا أعددته، وعند الله احتسبته.
كانت أم عمارة بحق مثال المؤمنة المجاهدة والصادقة في أقوالها وأفعالها، وكانت قدوة في صبرها وجهادها واحتمالها الأذى والآلام في سبيل الله، وإعلاء كلمته، وربّت أبناءها على حب الله تعالى وحب رسوله، حتى لقوا الله وهو عنهم راض إن شاء الله تعالى، وأدّت هي وزوجها وولداها رسالتهم في الحياة خير أداء.
توفيت أم عمارة في خلافة عمر رضي الله عنهما عام 13هـ.