العدد 1539 /30-11-2022

علي أنوزلا

لو أتيحت لكارل ماركس حياة أخرى لاختار أن يغيّر مقولته "الدين أفيون الشعوب" لتصبح "الكرة أفيون الشعوب"، أو "أفيون الناس" في عصرنا الحاضر، كما ينعتها بذلك علماء اجتماع ومثقفون لا يحبون الرياضة، فهذه اللعبة الشعبية تحوّلت إلى أفيون جديد للشعوب في الشرق والغرب، وفي الدول الغنية وتلك الفقيرة، هي حديث البيوت والمكاتب والمقاهي والشارع.

إنها اللعبة التي تذكي الهويات الوطنية عندما يلعب المنتخب الوطني، عندما يتّحد الشعب كله خلفه، بعيدًا عن الاختلافات السياسية والاجتماعية والثقافية، لدعمه، إلى درجة يمكن القول معها إن التعريف التقليدي للدولة التي تتكوّن من الشعب والأرض والسلطة الواحدة، لم يعد مكتملًا تمامًا، ويجب أن نضيف إليه ضرورة وجود فريق وطني قوي لكرة القدم يحقّق الانتصارات، فالكرة هي الوجه السعيد والمبتسم للهويات الوطنية، لأنها القادرة على تحقيق لحظة تحرّر فردي وجماعي بامتياز، تذكي المشاعر القومية وتحيي الهويات الوطنية، وتخلق ما يمكن وصفها بالقومية الرياضية أو "القومية الاحتفالية"، على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفيتسكي، تتجسّد في تركيز المشاعر والرموز الوطنية في لحظات مشحونة لإنتاج نوعٍ من التضامن الوطني بين جميع طبقات السكان لتشكيل جسم واحد، لكن هذه القومية الاحتفالية، كما يراها ليبوفيتسكي، تبقى متقلبةً وسريعة الزوال، ففي حالة الانتصار تتحوّل إلى فرحة جماعية عارمة، وفي حالة الهزيمة قد تنقلب إلى موجة غضب عارمة. في لحظة الانتصار تخلق "الشعور بالانتماء"، إلى المجموعة أو البلد أو العلم أو الفريق، أو ببساطة إلى مجموعة من الأفراد المتّحدين تحت الراية نفسها، يعيشون تجربة فرحتهم الجماعية، رغم أنهم يدركون أنها عابرة. وفي حال الهزيمة، عندما تنفلت المشاعر من كل عقال قد تتحوّل إلى لحظات غضب وعنف، تنكفئ الذات الفردية على نفسها، وتتراجع القومية الاحتفالية لتفسح المجال أمام بروز مشاعر الحقد الاجتماعي والطبقي.

بالإضافة إلى مشاعر السرور والأفراح والآمال والأحزان والغضب التي تثيرها هذه اللعبة، فهي أيضًا لعبة جيوسياسية مؤثّرة في عالم تستمر فيه المنافسات الوطنية، ويحتدّ فيه صراع الهويات القاتلة، وتضفي التعليقات الرياضية المنفلتة المصاحبة للعبة، والتي تمتح قاموسها من لغة حربية محضة، تتحدّث عن الهجوم والدفاع والمناورة والمراوغة والقصف والدّك والاكتساح والانتصار والهزيمة أجواء حربية بامتياز، تضع المشاعر المشحونة والمتناقضة على خط تماس رفيع. وقد كانت النازية، في أوروبا، الاستخدام الفاضح للرياضة لأغراض دعائية سمجة. ومنذ ذلك التاريخ، تبنّت الفكرة على نطاق واسع أنظمة أو دول عديدة تسعى كل منها، حسب غاياتها، إلى استعمال الأنشطة الرياضية لتحقيق غايات سياسية داخلية أو لخدمة أهداف جيوستراتيجية خارجية، فالرياضة، بطبيعتها، وخصوصا كرة القدم بفعل شعبيتها العالمية، تحوّلت إلى عامل اجتماعي عالمي يلعب بالحدود، ولكن أيضًا بالانقسامات السياسية أو العرقية أو الدينية.

وإذا أضفنا إلى ذلك الجانب التجاري والاقتصادي الذي يحرّك هذه اللعبة وتحرّكه، فسنجد أنفسنا نتساءل: ماذا لو لم تكن كرة القدم مجرّد رياضة عادية؟ فهذه اللعبة التي تحفل برموز كثيرة، بمثابة "قوة ناعمة"، تجعل من الممكن الإقناع وإثارة الإعجاب أو الاحترام كما التأثير والقدرة على إحداث التغيير بطريقة ناعمة وسلمية، هي أداة يمكن أن تكون مفيدة للغاية، إذا جرى استخدامها بذكاء، سواء من الحكام أو الشعوب، لنتذكّر حركات "الألتراس"، ورسائل شعاراتها السياسية عندما تحوّل المدرّجات إلى مساحات للتعبير عن المشاعر الشعبية من قضايا سياسية واجتماعية وثقافية. وهي، في نهاية المطاف، ليست سوى مرآة للقضايا الحالية لمجتمعاتنا، لأنها تعكس مسألة الهيبة والأنا القومية، وفائدتها تكون عاطفية أكثر من كونها ملموسة في الجوانب الأخرى من حياة الناس الذين سرعان ما يصحون من مفعول التخدير المرحلي، ليعودوا إلى واقعهم الذي لا يرتفع. ومع الأسف، نجحت بريطانيا، التي ابتكرت الديمقراطية وكرة القدم في القرن التاسع عشر، في تصدير الكرة إلى أماكن نائية مع حماسةٍ لا حدود لها، وفشلت، حتى في استعمال القوة أحيانا، في تصدير الديمقراطية التي تتحكّم في مصائر الشعوب ومستقبلها، وليس فقط في مشاعرها وعواطفها كما تفعل الكرة، من دون أن تغير من واقعها أي شيء .. وتلك إحدى مفارقات هذه اللعبة الجميلة والمخدّرة.