العدد 1349 / 13-2-2019

رضوان زيادة

تعرّفت إلى الصحافية رانيا أبو زيد خلال السنوات الأولى للثورة السورية، كانت تكتب لمجلة التايم الأميركية حينها، وتغطي التطورات في سورية التي كان وقتها صحافيون قليلون فقط مهتمين بها، أو يسعون إلى الكتابة عنها.

تم منع رانيا من دخول سورية كما تشرح ذلك في كتابها الصادر حديثا بالإنكليزية "لا عودة إلى الوراء"، وبعد وقت قصير من بدء الاحتجاجات، ولكنها على الرغم من ذلك قضت نحو ثلاثة أسابيع في كل شهر عبر الدخول إلى سورية، على مدى سنوات، من أجل تقاريرها الصحافية ولاستكمال كتابة كتابها هذا.

اعتقدت أن كتابها مجرد تغطية صحافية، أو استكمال لتغطيتها الصحافية الجيدة عن سورية عموماً، لكن قارئه يستكشف أن رانيا رغبت منه أن يؤدي فكرة أبعد ورسالة أجمل، فهو يرصد تحولات الحياة الإنسانية في سورية، عبر تتبع أربع قصص وأربع شخصيات خلال سنوات الثورة من عام 2011 حتى 2017. يدور الكتاب حول رواياتٍ مفصلةٍ عن الحياة في سورية الثورة منذ اللحظة الأولى التي نزل فيها الشباب إلى الشوارع، معلنين بدء الثورة والاحتجاجات ضد نظام بشار الأسد، وما تبع ذلك من الفوضى الدامية والحرب الأهلية. ولذلك، تحاول رانية تحليل التمرد السوري في المقام الأول من خلال قصص شبانٍ اعتقلهم النظام، ثم عذّبهم من دون رحمة. وتتبع مصائرهم خلال سنوات الحرب المختلفة، وهم سليمان طلاس فرزات، رجل أعمال ثري كان يدير شركة للتأمين من حماة، وشارك في المظاهرات في مدينته الرستن. محمد ضاهر والمعروف بأبي عزام، مدرس لغة عربية في مدينته الطبقة – حمص، ثم أصبح قيادياً في كتائب الفاروق في حمص. ومحمد من جسر الشغور، نشأ في اللاذقية، ثم سجن في الثمانينات بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين في فرع فلسطين في دمشق، وتعرّض للتعذيب فيه، وكان من أوائل المنضوون إلى جبهة النصرة. ويسرد الكتاب محنة المدنيين من غير المقاتلين، مثل فتاة صغيرة، اسمها روها، كان عمرها تسع سنوات، حيث يروي الكتاب سيرتها مع عائلتها التي فرّت إلى تركيا.

مصائر هذه الشخصيات الأربع هو ما يشكل رواية الكتاب التي تختصر، بشكل أو بآخر، رواية الثورة السورية، وانتقالها من سلميتها إلى الصراع المسلح، فيسرد الكتاب التنافس السياسي والعسكري المعقد بين من يدعمون النظام ويعارضونه، ويناقش تأثير المقاتلين الأجانب والمحليين الذين انضموا إلى "داعش" ودورهم.

بدأت الانتفاضة السلمية في سورية بمطالب بالحرية والديمقراطية، ووضع حد لأربعة عقود من حكم عائلة الأسد. وقد قوبلت بقمع النظام الذي أودى بحياة آلاف من المتظاهرين السلميين، ما أدى إلى عسكرة الثورة، واستيلاء إسلامي متطرّف على معظم المعارضة المسلحة. "لا عودة إلى الوراء" هو سرد للأشخاص الذين سلطت قصصهم الشخصية الضوء على ذلك التحول إلى السلاح والتطرّف الذي نشهده اليوم.

كان تكتيك النظام محاولة إقناع العالم بأنه لا توجد انتفاضة للمواطنين، بل هي حركة إسلامية مسلحة تهدّد الحكومة، وتحتاج إلى سحقها. ساعدت هذه القصة النظام على اتخاذ إجراءاتٍ صارمةٍ ضد النشاط السلمي منذ البداية. من دون أن تدرك أنه، بموجب تعليمات النظام، تم إطلاق سراح إسلاميين عديدين من السجن في عفو عام 2011، وفي الوقت نفسه، حبس الأسد آلافا من النشطاء السلميين، مثل غياث مطر ويحيى شربجي وغيرهما ممن توفوا تحت التعذيب، نتيجة وحشية لم يسبق لها مثيل. وهو ما سمح للمعارضين الإسلاميين بالتعبئة والتنظيم، ما ساعد في إنتاج روايةٍ للأسد إن الانتفاضة كانت مشكلة إسلامية للنظام.

ويهمل هذا التصور المعنى الشعبي للثورة السورية، بوصفها ثورةً شعبيةً، بدأت بدون قيادة وبدون أيديولوجيا، شاملا جميع قطاعات المجتمع، ويضم جميع الفئات الاجتماعية والدينية الذين أرادوا رؤية التغيير الديمقراطي في سورية. ولذلك تبدو الشخصيات التي تركّز عليها رانيا وكأنها تنتمي إلى تيار أيديولوجي واحد، وهو ما من شأنه أن يضع الانطباع الخاطئ عن الثورة السورية بوصفها "ثورة إسلامية" قامت على الثأر من الاعتقالات السياسية السابقة التي استهدفت الإسلاميين خلال سنوات الثمانينات الذين ثاروا بهدف الثأر من الاعتقال والتعذيب الذي تعرّضوا له، وهو بكل تأكيد مكون مهم وعامل رئيسي في رفد الثورة السورية، لكنه ليس الوحيد، كما أنه لم يكن المهيمن خلال سنوات أو على الأقل شهور الثورة السورية الأولى في عام 2011.

وعلى الرغم من ذلك، تقدّم رانيا أبو زيد سردية للحرب السورية التي لا تنتهي من عام 2011 حتى عام 2017 بشكل رائع ومثير للحماسة، فهي صفحة بعد صفحة تضع سيلاً لا يتوقف من التقارير الاستثنائية، وومضات عديدة من النثر الوصفي، فالشخصيات التي بنيت حولها القصة هي التي تجعل الكتاب لا يُنسى، لأن أبو زيد تمزج قصصهم عن الأمل والخسارة في بلدٍ حيث "الموتى ليسوا مجرّدين فقط، مقتصرين على الأرقام. حتى أن الأمم المتحدة أقلعت عن إحصاء القتلى منذ أكثر من أربع سنوات، على الرغم من أن عدد القتلى قد قدّر بأكثر من نصف مليون".

تروي رانيا أبوزيد قصة تاجر عطور سوري من الطائفة العلوية قتلت زوجته وابنته الكبرى، وأخذ فصيل جهادي أطفالها الآخرين رهائن. ثم تقوم بإجراء مقابلات مع "أمير" سابق غير نادم، لأحد الفصائل المعنية التي عرفتها منذ سنوات. وهي بذلك تلقي ضوء على صعود الخطاب الطائفي في الحرب السورية، وكيف أصبح جزءا من الحياة اليومية للسوريين، وكيف لعب في تعزيز المعارضة الجذرية للسوريين ضد الأسد، حيث يوصف الأسد دوما دكتاتورا لا يرحم، لا يمانع في زجّ وطنه وطائفته بأتون حربٍ أهليةٍ طاحنةٍ لا تبقي ولا تذر، إذا كان في ذلك إنقاذ له ولبقائه على سدة الحكم.

تتبع مصائر هذه الشخصيات يخلق في الحقيقة قصصا عن مآلات الحرب السورية لا تنتهي، لا سيما أن أثر هذه الحرب على السوريين لم يستثن أحداً منهم على الإطلاق.