سالم البيض

يتعلق الأمر بسعاد عبد الرحيم، المرأة التي فازت برئاسة بلدية مدينة تونس، أو مشيخة الحاضرة، كما كانت تسمّى في المراسلات والنصوص القانونية لدولة البايات الحسينيّين، الذين شهد زمن ولايتهم الاستعمار الفرنسي، وأفل نجمهم بإعلان الجمهورية في تونس في 25 تموز 1957. لم يكن مؤسسو بلدية الحاضرة  (العاصمة) وشيوخها، منذ سنة 1789 تاريخ إعلان مشيخة تونس، وإلى 3 تموز 2018، اليوم الذي انتخبت فيه سعاد عبد الرحيم، بمن في ذلك الجنرال حسين، أول رئيس بلدية تونسية بداية من سنة 1858. وحسيب بن عمّار مؤسس صحيفة الرأي ملاذ النخب المعارضة زمن حكم الحبيب بورقيبة، وفؤاد المبزع، الدستوري التجمعي المخضرم، رئيس الدولة بعد هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وغيرهم ممن تولوا الشأن البلدي، لم يكن هؤلاء يعلمون، أو يخطر ببال أحدهم، أن هذه البلدية التي توازي في الأهمية بالنسبة إلى بلدانها بلديات باريس أو لندن أو نيويورك أو إسطنبول، التي لم يترأسها سوى الرجال أكثر من قرن ونصف القرن، ستتولى أمرها امرأة. 
ولم يكن أحد ممن وردت أسماؤهم يتوقع أن البلدية الكبرى التي تداول على تسييرها ورئاستها الأعيان وأصحاب النفوذ والوزراء وكبار التجار وملاك الأراضي والعلماء، الذين ينتمون أباً عن جدّ إلى الحاضرة، ممن انصهروا تحت مسمى البِلدية، على الرغم من أصولهم المتنوعة من شركس وأتراك وعرب وأندلسيين وأوروبيين، الذين كانوا يستوطنون مدينة تونس العتيقة. 
لم يكن صعود سعاد عبد الرحيم إلى هرم بلدية تونس مجرد مدخل لكسر تابوهات الهيمنة الذكورية باعتبارها عرفاً ضارباً في القدم، وكسراً لتحريم المنصب على غير البلدية أصيلي الحاضرة وأرسطقراطياتها القديمة وعائلاتها المتنفذة، وإنما قطعٌ مع إرث تولي الدستوريين  والتجمعيين (حزب التجمع الدستوري المنحل) دون غيرهم هذا المنصب المهم في الدولة، واحتكارهم له على مدى حكمي بورقيبة وبن علي
 ويعد مجيء الإسلاميين إلى رأس هذه البلدية، بعد عشر سنوات من تدشين مبناها الضخم بالقرب من مركز السلطة التقليدي والتاريخي في القصبة، من الرئيس الأسبق المخلوع زين العابدين بن علي، وهو الذي كان يمكّن رئيس البلدية، الحامل لقب شيخ مدينة تونس، من امتيازات عضو حكومة، ومن حضور مجالس الوزراء، يعد انقلاباً عميقاً في المعاني والرمزيات، وشاهداً على تبدّل أحوال الناس، فقد كان بن علي ونظامه الذي دخل في معركة دموية مع الإسلاميين، وجعل منهم خصمه وعدوّه الرئيسي، يمهّد لهم الطريق بوعي منه، وباستشراف لمسارات التاريخ ومآلاته، أو بدون وعي للصعود إلى القمة، وتولي مؤسسات الدولة وأجهزتها التي كان يفتخر ويتباهى ببعثها أو تجديدها وإعادة تنظيمها وهيكلتها وإخراجها في أبهى صورها، كما الحال بالنسبة إلى بلدية تونس التي شيد لها مقرّاً تشهد هندسته ومعماره ومنمنماته وجماليته وسعة فضائه وضخامة مبناه، على أهميته ومكانته في الدولة.
تختلف بلدية الحاضرة التي آلت رئاستها إلى الإسلامية سعاد عبد الرحيم، وجعل منها حزب حركة النهضة الإسلامي رهاناً وتحدياً لا بدّ له أن يفوز به مهما كان الثمن، وبالاستنجاد بكل الأدوات والوسائل المساعدة على الفوز، بمدنّسها ومقدّسها، عن غيرها من البلديات، فهي تمهد الطريق للذهاب إلى مواقع أكبر أهمية في الدولة، كما حدث في بلدان كبرى، فضلاً عن أنها تتمتع بأكبر ميزانية، مقارنة بغيرها من البلديات والمؤسسات القيادية، تصل إلى حوالي 170 مليون دينار (6,8 ملايين دولار)، ما يجعلها تفوق موازنة رئاسة الجمهورية المقدرة ب 108 ملايين دينار، وموازنة رئاسة الحكومة ب 157 مليون دينار، الأمر الذي جعل منها محل تجاذب كبير وصراع بين مختلف القوى السياسية والحزبية والأيديولوجية ولوبيات النفوذ المالي وأصحاب المصالح والأعمال. 
لكن اللافت في تجربة سعاد عبد الرحيم أنها لا تشبه الإسلاميات والنهضويات شكلاً على الأقل، فهي المرأة غير المحجبة التي لا يوحي مظهرها ولباسها بانتمائها إلى حزب محافظ، له مرجعية إسلامية، على خلاف النسبة الغالبة من النهضويات والإسلاميات المتحجبات، اللواتي خاضت لأجلهن الحركة الإسلامية معارك ضارية من أجل حقهن في الحجاب، أو اللباس الإسلامي بحسب التسمية التي روّجها الإسلاميون فترات طويلة، واستعملوها في المعارك السياسية والانتخابية، فإذا بالحركة الإسلامية تختار امرأة سافرة، حداثية اللباس والسلوك والمظهر، حتى تستطيع تسويقها، والتعريف بها، والتمكين لها في فضاء تعتمل فيه نزعات عدم القبول بالإسلاميين قادة للدولة، على الرغم من الشرعية الانتخابية التي أمنوها لأنفسهم، ويتنامى فيه الخوف على ما باتت تعرف بمكتسبات المرأة التونسية، الأمر الذي تم توظيفه في انتخابات 2014 الرئاسية، لصالح الباجي قائد السبسي الذي صوتت له مليون امرأة أو يزيد.}