العدد 1404 / 11-3-2020

حاوره معتز الخطيب

مثّل د. محمد عمارة - الذي رحل عن عالمنا يوم 28 شباط 2020 - علامةً بارزة على مرحلة تاريخية مهمة، مهما اختلفنا في مواقفنا منه ومن إنتاجه الفكري. تَقَلب يَسرة ويمْنة في عوالم الأفكار، بدأ كل شيء مبكراً قبل الجميع، وكان رائداً للجميع. جرّب وتفكر وتدبر وكتب وحاضر وناضل. في مرحلته الأولى كان يساريّاً؛ وكان منظراً تأثر به جيلٌ شاب عريضٌ ممن أصبحوا لاحقاً مفكرين كباراً في تيارات مختلفة.

عالج أفكاره بدقة أحياناً، وبالغ أحياناً أخرى؛ اقترب من اليسار، واقترب من المعتزلة، واقترب من الإخوان، واقترب من السلفيين، وعمل مع الأزهر برئاسة الشيخ د. أحمد الطيب؛ ولكنه بقي مستقلاً عصاميّاً لا يمكن أن يُحسب على أحد سوى نفسه. له فضل السبق، وفضيلة المواقف الأخلاقية المحترمة، لم يجامل ولم يبدِّل فيما يعتقده حقّاً. كان ثابتاً على مبادئه، خصوصاً أنه زهد في المناصب والأسفار والوظائف التي عافها مبكراً جدّاً بعد تخرجه ثم طلقها حتى موته.

وفيما يلي حوار أجرِي معه سنة 2010 في إطار إعداد فيلم وثائقي - لصالح قناة الجزيرة - عن سيرته الشخصية ومسيرته الفكرية، ولم يسبق نشر الحوار كاملاً، وقد أدخلِت عليه بعض التعديلات مما يقتضيه تحويل نص الكلام من الشفاهي إلى الكتابي، من دون أي يخلّ ذلك بنصه ومعناه بل ولا بلفظه، مع استثناءات قليلة يفرضها التحرير وسبك الكلام.

• مارستَ النشاط السياسي في الجامعة، وانضممتَ إلى "مصر الفتاة"؛ فلماذا "مصر الفتاة" وليس "الإخوان المسلمون"؟

- حدث أني التقيت بناسٍ من حزب "مصر الفتاة"، وبدأت العمل بالسياسة من خلال الحركة الوطنية في مصر، ومن خلال القضية الفلسطينية. أول مظاهرة اشتركت فيها كانت سنة 1946 أثناء فترة المعهد (1945-1946)، وكانت مظاهرات ضد مشروع صدقي/بيفن حول الجلاء الإنجليزي عن مصر. وفي 1947 بدأت أخطب في المساجد ضد اليهود، ومن أجل القضية الفلسطينية، وكتبت أول مقال بعنوان "جهاد" عن الفدائيين الذين دخلوا فلسطين قبل الجيوش العربية، نُشر في أول نيسان سنة 1948 في جريدة "مصر الفتاة"، وأعتقد أن نشر هذا المقال حدد مستقبلي ومصيري في علاقتي بالكتابة.

كان عندي قلق في هذه المرحلة؛ هل أنتسب إلى الإخوان المسلمين أم مصر الفتاة؟ كان "مصر الفتاة" حزباً وطنيّاً تقدميّاً إسلاميّاً، وكان الإخوان جماعة إسلامية، وكنت أرى في المنام أحمد حسين (ت 1982م) وحسن البنا (ت 1949م)، ولكن الذي رجح لدي كفة "مصر الفتاة" على كفة "الإخوان المسلمين" أن زملاءنا من الطلبة الذين انتموا إلى الإخوان كان لهم برنامج محدد في القراءة لا يتعدونه، وتحدده لهم الجماعة، وكان عندي نهم في القراءة، فهذا القيد على الحرية في القراءة والاطلاع هو الذي رجح عندي مصر الفتاة.

أضف إلى ذلك أن أبي عليه رحمة الله مرِض، وخاف إذا تُوفي ألا أكمل تعليمي، فكتب لي شرطاً بـمئتيْ جنيه، وكان هذا مبلغاً كبيراً، وطلب مني تسجيل هذا الشرط في محكمة دسوق، وكان موظف المحكمة يقدم منشورات لمصر الفتاة، وكنت أيضاً أقرأ صحيفة مصر الفتاة، وأعرف أخبار الفدائيين الذين دخلوا من مصر وسوريا إلى فلسطين وذلك قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين في أيار سنة 1948.

تحولتُ بعد ذلك إلى الحزب الاشتراكي، مما أتاح لي فرصة لم تتح للكثيرين من جيلي من طلاب التعليم الأزهري؛ فالطالب الأزهري كان يقرأ في التراث، والطالب في التعليم المدني كان يقرأ في الفكر الغربي، أما أنا فأتيحت لي فرصة أن أقرأ في التراث والفكر الغربي معاً.

• في هذه المرحلة كان لديك نزوع ثوري واضح، حتى إنك حاولت أكثر من مرة التدرب على السلاح والانخراط مع الفدائيين في مرحلة مبكرة جدّاً من حياتك؛ كيف حدث ذلك؟

- عندما احتدَّت أحداث القضية الفلسطينية؛ تطوعت لأتدرب على السلاح وأذهب إلى فلسطين، لكن بسبب السن وأن دسوق كانت مدينة صغيرة لم تتح لي فرصة الدخول إلى فلسطين، وعندما ألغيت معاهدة 1936 بين مصر وإنجلترا سنة 1951 تدربت على السلاح أيضاً، ثم تدربت على السلاح أيضاً للذهاب إلى قناة السويس ومحاربة الجيش الإنجليزي في القواعد العسكرية هناك، لكن حدث حريق القاهرة فأجّلت الموضوع. ولكنني تمكنت من الذهاب إلى القناة لمواجهة العدوان الثلاثي 1956، حين كانت لي علاقة باليسار المصري الذي كان بينه وبين الحكومة تعاون لمواجهة العدوان الثلاثي.

في مرحلة الابتدائي والثانوي -قبل الارتباط باليسار- كانت لدي تجربة في المجاهدة الروحية والتصوف غير الطرقي، وكنت أخطب على المنبر ضد الطرق الصوفية وأعلّم الناس فرائض الدين ومقاومة الظلم، وفي الجمعة التي سبقت ثورة يوليو صادف أن انتقدت الملك فاروق، وعندما عُزل بعد الثورة ظن بعض الناس أنني كنت على علم بتفاصيل ثورة يوليو، وظن آخرون أنني من أولياء الله الصالحين.

وعندما ألغيت الأحزاب - ومنها مصر الفتاة والحزب الاشتراكي - لم يكن أمامنا لمواجهة الإقطاع إلا اليسار، فقد كان اليسار حينها فارس القضية الاجتماعية والعدل الاجتماعي، وكان له موقف من القضية الوطنية؛ فقد كان ضد القواعد العسكرية والوجود الأجنبي. وكنت قد دخلت اليسار من باب القضية الاجتماعية من باب القضية الثورية.

وهناك قضيتان لازمتاني في حياتي - منذ البداية وحتى هذا التاريخ - وهما: قضية الحرية وتحرير الوطن، وقضية العدل الاجتماعي الذي كان يستنفر الإنسان ليقف مع المساكين، وهذا ما جعلني أنتمي إلى اليسار. أتاح لي اليسار أيضاً قراءة الماركسية والفكر الغربي وهذا أضاف لي ولم يخصم مني، كانت هناك أشياء كثيرة في الماركسية أدركت أن لها نظائر في الفكر الإسلامي، كفكرة الجدل والعلاقة بين الظواهر الاجتماعية.

• كان لديك توجه يساري ونزعة قومية كيف جمعتَ بينهما؟ ثم إنك تقلبت كثيراً - فيما يبدو - فتنقلتَ بين اليسار والفكر الاشتراكي والمعتزلة والإصلاحية الإسلامية، واتُّهِمتَ بتهم مختلفة منها المادية ثم الاعتزال ثم العقلانية، ثم إنك من ضمن "التراثيين الجدد"، ثم بالسلفية! كيف تنظر إلى هذه التحولات والتصنيفات؟

- دخلت اليسار لأجل القضية الاجتماعية، ولكن بالقراءة والتأمل في السجن أدركت أن حل المشكلة الاجتماعية يكمن في الإسلام، في نظرية الاستخلاف وليس في الصراع الطبقي والماركسية، وهذا هو الذي جعلني - بعد الخروج من السجن 1954 والحصول على الليسانس 1965- أتفرغ للمشروع الفكري منذ منتصف الستينيات. كان ثمة استقطاب حادّ في الحياة الفكرية بين التغريب وبين ما يُسمى السلفية، فكانت الوسطية الإسلامية والتجديد الإسلامي -أي الارتباط بالأصول والجذور مع التجدد- هي التي تشغلني.

مواقفي في مرحلة اليسار والمرحلة القومية ثم الإسلامية حصل فيها نضج وتطور، لكن لم تكن هناك فواصل حادة بينها. كنت يساريّاً بالمعنى الاجتماعي الثوري، وليس بالمعنى العَقَدي فلم يكن هناك إلحاد؛ لأن التجربة الروحية والتكوين الديني الأصيل عصمني من أن أُستوعَب في الفكر المادي والنظرية المادية. عندما أدركت أن حل المشكلة الاجتماعية في الإسلام -وليس في الماركسية- كان هذا بداية النضج في الموقف الإسلامي.

وفي المرحلة الناصرية كان ثمة تركيز على البعد القومي والعربي، وأنا كنت وما زلت أدرك أن القومية دائرة من دوائر الجامعة الإسلامية، فلم يكن هناك تناقض بين الانتصار للوحدة العربية وللقومية العربية وبين الدائرة الإسلامية. في مرحلة اليسار لا أنكر أنه حدث عندي نوع من الغبش الفكري، ومن سلبيات المرحلة اليسارية - بالنسبة لي - أنني كنت أحفظ دواوين شعرية كثيرة، ثم نسيت هذا في مرحلة اليسار لأنني شغلتني المنشورات والنشاط السياسي، ولكن بدأ الغبش الفكري يزول في المرحلة الإسلامية شيئاً فشيئاً، وبعد 1967 تراجع المشروع القومي وأصبح التركيز على الدائرة الإسلامية.

أيضاً مما عمق موقفي الإسلامي ظهورُ الصحوة الإسلامية في الثمانينيات، وتصاعد التحديات التغريبية للصحوة الإسلامية والحل الإسلامي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في 1991، الأمر الذي جعلني أفرد العديد من الكتب لمواجهة الفكر التغريبي والرد على غلاة العلمانيين، لكن ظلت الدائرة القومية والعربية، وقضية العدل الاجتماعي والثورة على الظلم الاجتماعي ملحوظة في كتاباتي، كما ظلت الدائرة الإنسانية والتفاعل مع الحضارات المختلفة موجودة في مشروعي الفكري.

أما بالنسبة لموضوع المعتزلة؛ فقد كتبت رسالتيْ الماجستير والدكتوراه كشكل من أشكال الهواية، لأنني منذ البداية عزمت ودعوت الله ألا أكون موظَّفاً، وأن أفرغ كل وقتي للعمل الفكري. كتبت الماجستير سنة 1970 عن المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، وما دفعني لهذا - وهي فكرة لا أزال أحتفظ بها - أنني أحتضن كل تراث الأمة، كل فرق الأمة، ولا أتخندق في فرقة معينة أو مذهب معين.

وجدت أن الذين كتبوا عن المعتزلة قبلي كانوا يكتبون عن المعتزلة من كتب خصومهم؛ لأن مخطوطات المعتزلة لم تكن قد اكتُشفت، حتى كارل بروكلمان لما كتب ‘تاريخ الأدب العربي‘ لم يكتب عن مخطوطات المعتزلة، وكان أئمة الزيدية قد جمعوا تراث المعتزلة وحبسوه ولم يعرف عنه أحد، وحين ذهبت سنة 1951 - في بعثة من جامعة الدول العربية ودار الكتب المصرية - إلى اليمن اطلعت على تراث المعتزلة المكتَشف حديثاً، وكان للزيدية علاقة بالمعتزلة فحفظوا نصوصهم ومخطوطاتهم.

وكان طه حسين قبل ذلك قد اهتم بمخطوطات القاضي عبد الجبار فنشر ‘المغني‘ والكثير من هذه الكتب، وكنت أول من أنجز دراسات عُليا في الفكر المعتزلي، وكان عملي إنصافاً للمعتزلة وليس انحيازاً لهم كفرقة من دون سائر الفرق، فقد كتبت أطروحة الدكتوراه عن نظرية الإمامة بين المعتزلة والشيعة وفرق أهل السنة المختلفة.

ثم إن تهمة الاعتزال لا تزال موجودة حتى الآن، ولكنني أقول: أنا لم أتخندق في فرقة، أنصفت المعتزلة كفرسان للعقلانية الإسلامية، وكانوا فرسان نشر الإسلام في الحواضر التي فُتحت وكانت فيها مدارس للفلسفة، فكان لا بد من فكر عقلاني يواجه هذه المدارس. وفي الوقت الذي كنت أدرس فيه المعتزلة كنت أنشر أعمال رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وعلي مبارك.

أدعو الذين يعتبرون الاعتزال تهمة إلى أن يميزوا بين معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد، والتطورات التي حصلت بعد ذلك. وحين أدعو إلى احتضان كل تراث الأمة والانتقاء منه فأنا ضد الهجرة إلى فرقة والتخندق في خندقها أو رفض فرقة؛ فالفكر السلفي فيه أشياء في غاية من العظمة، وعندما اقتربت من ابن تيمية كتبت عنه وعن عقلانيته، والآن نُسمَّى "العصرانيين الجدد"، ومن قبلُ كنا نُسمَّى "التراثيين الجدد"، وهو اسم أُطلق عليّ وعلى طارق البشري وعادل حسين.

4- الكتابة والمشروع الفكري:

• لماذا عزمتَ من أول الأمر على أن تكون كاتباً؟ ما الذي صرفك عما سوى الكتابة مما انشغل به غيرك من الوظائف والمناصب؟

- بدأت النشر في فترة مبكرة منذ كنت في الابتدائية، وهذا أعطاني إحساساً بأن هذا هو مكاني الطبيعي، فأجمل مكان يوضع فيه اسمي هو صحيفة أو كتاب. فقد كنت أعتبر أن الوظيفة نوع من الرق، وبعد خروجنا من السجن وجد زملائي من اليساريين وظيفة في الصحافة وغيرها بناء على صفقة مع الحكومة، أما أنا فقد تركت اليسار ولذلك لم أعين في هذا المجال، ولكن عينوني في الجمعية الاستهلاكية.

وحين سألت عن سبب ذلك قيل لي: هناك لصوص كثيرون ونحن نريدك أن تمنع السرقة في الجمعية! قلت لهم: ولكن هناك احتمال أن أتحول إلى لص مثلهم! أدركت أن هذه الوظيفة كانت محاولة للقتل المعنوي، كان مرتبي عشرين جنيها، وكنت آخذ إجازة من دون مرتب لأقضي معظم وقتي (18 ساعة) في دار الكتب المصرية (في مرحلة الدراسات العليا)، وفي بعض الأحيان كنت أتقاضى سبعة جنيهات في الشهر بعد اقتطاع فترة الإجازة. وكان والدي يرسل لي الفطير والخبز والسكر والشاي عبر القطار من البلد.

أدركت أنه لا بد من مقاومة هذا القتل المعنوي، خصوصاً أنني حاولت أن أعمل مصحِّحاً في المطبعة ولكنهم رفضوا، وبعد سنتين أو ثلاث طلبت نقلي إلى وزارة الثقافة في التراث في الهيئة العامة للكتاب، وبدأت أشتغل بتحقيق التراث، وأتيحت لي فرصة مراجعة الكتب الإسلامية ذات الحساسية، بمرتب ضعيف جدا.

عُرض عليّ كثيرا أن أذهب إلى الجامعات العربية في دول النفط فرفضت؛ لأن نفسي لم تطاوعني أن أشتغل عند كفيل، ولأن هدفي الأساسي كان التفرغ للعمل الفكري، ومما أعانني على هذا أن زوجتي كانت متفهمة لطموحي الفكري، حتى إنها تركت دراستها العليا في الزراعة وتفرغت للمنزل وحملت أعباءه، ومنزلي عبارة عن مكتبة، كوّنتها من جديد بعد أن نُهبت بعد الاعتقال.

كنت أذهب يومياً إلى معرض الكتاب لشراء الكتب بالمبالغ التي جمعتها، وقد نمتْ مكتبتي إلى أن غطت جميع جدران المنزل، وكانت زوجتي تسألني: ماذا نفعل بالكتب؟ فأقول لها مداعباً: سنعلقها في السقف. وُلد أولادي في مكتبة، وكان عندي منهج في تعليم الأولاد أن يتدربوا منذ الصغر على الصورة والورق، وأن تنشأ ألفة بينهم وبين الورق.

• بمن تأثرت؟ هل تأثرتَ بأحد معين في تقنيات الكتابة والتحقيق، خصوصاً أنك دخلت الدراسات العليا من باب الهواية ولم تسلك العمل الأكاديمي؟

- هناك الكثير من الأعلام الذين تأثرت بهم في الجانب الخُلقي والمرابطة الفكرية على ثغور الإسلام، أكثر من تأثري بكتاباتهم؛ فالمدرسة الحديثة التي تأثرت بها تأثراً شديداً وانتميت إليها هي مدرسة الإحياء والتجديد، وخاصة الأفغاني وعبده، فقد كان تراثهما نقطة البداية لعملية الإحياء والتجديد في العصر الحديث.

كانت هناك علاقة روحية شديدة بيني وبين الشيخ محمد الغزالي، قبل أن أقرأ كتب الشيخ عندما أردت الدفاع عنه ضد الهجوم السلفي عليه. كنت شديد الإعجاب بعباس العقاد في إسلامياته وليس في السياسة، وعندما كنت في اليسار كنت أكتب رسائل نقد وهجوم شديد، وكان يرد علي في صحيفة ‘أخبار اليوم‘، كنت أكتب باسم مستعار ويرد عليّ ردوداً عنيفة؛ لأنه كان يساند الملك والإنجليز، فكان جانبه السياسي يجعله أقل مما هو عليه.

كان يعجبني في العقاد عصاميته وعملقته وكبرياؤه، كنت أراه في ميدان التحرير فأكنّ له إعجاباً شديداً. أيضا أُعجبت بطه حسين، رغم أن الجانب الأدبي عنده أكثر من الجانب الفكري، ولكن مسيرته وكفاحه شكّلا مصادر للإعجاب الفكري بهؤلاء الأعلام. ومع ذلك لم أتخندق في تراث علَم من هؤلاء، اللهم إلا المجموعة التي عكفت على نشر تراثها وأفكارها (الطهطاوي والأفغاني وعلي مبارك ومحمد عبده وقاسم أمين)، وتعلمت تحقيق الكتب من تحقيق عائشة عبد الرحمن لرسائل أبي العلاء المعري.

• هل أنت راضٍ عن كل ما كتبته؟

- هناك كتب أدركت أن إعادة طبعها ليست مفيدة وبحاجة إلى إعادة نظر، فهذه أوقفت إعادة طبعها، وأشرت إلى هذا في قائمة كتبي، وهناك أشياء كتبتها لم أُعِدْ النظر فيها إلا أني كتبت ما يصححها. ففي بعض الأحيان استندت إلى بعض المصادر ثم وجدت أنها لم تكن موثوقة، ككتاب ‘الإمامة والسياسة‘ (المنسوب لابن قتيبة الدينوري المتوفى 276هـ)، فصححت هذه الكتابات. ولكن المسيرة طويلة؛ فقد بدأت أكتب منذ سنة 1948 ومن الطبيعي أن تتطور الأفكار وتحصل مراجعات في المناهج والأحكام، والذين لا يراجعون أفكارهم هم الموتى!

ولذلك أرى أن المراجعات الفكرية والتطور الفكري ميزة وفضيلة. وبالإضافة إلى ذلك؛ هناك مسألة الأولويات وهي تختلف عن المراجعات، فلكل مرحلة أولوياتها وتحدياتها، في المرحلة القومية كان التركيز على الدائرة العربية أكثر من الدائرة الإسلامية، وفي المرحلة الإسلامية أُدرِجت القومية في إطار الدائرة الإسلامية، ثم تم التركيز على التغريب والغلو العلماني.

• ما أهم الأفكار التي تراجعت عنها؟

- ما كتبته عن الطابع القومي للإسلام؛ كنت أؤكد على أن التوحيد الديني مجرد وجه، ولكن الوجه الآخر هو وحدة الأمة، سبق أن ركزت على الوحدة القومية ولكنني بعد ذلك ركزت على الوحدة الإسلامية، تأثرت بفكرة الصراع الطبقي ثم تبنيت نظرية الاستخلاف ونظرية الأمة، ونظرية التوازن والعدل الاجتماعي والأمن الاجتماعي والتكافل.

• قد يبدو من كتاباتك الأخيرة أنك أصبحتَ أقرب إلى السلفية، كيف ترى الأمر؟

- كتبت كتيباً عن ‘سلفية واحدة أم سلفيات‘، وكتبت عنها في كتاب ‘تيارات الفكر الإسلامي‘، وكان محمد عبده يتحدث عن أنه سلفي ويريد فهم الدين كما فهمه سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف. كل إنسان سلفي، فكل إنسان له ماضٍ، ولكن ما ماضيك؟ هل هو عصر الازدهار أم عصر التراجع؟ كيف تتعامل مع سلفك؟ هل تهاجر من الحاضر إلى الماضي، أم تستلهم السلف والماضي لقراءة الواقع ولحل مشكلات الواقع؟ ولذلك لدينا سلفيات مختلفة.

لذلك عندما قرأت ابن تيمية في السنوات الأخيرة وجدت عنده أشياء مدهشة، وبعض الذين قرؤوا ما كتبته عن ابن تيمية من السلفيين قالوا لي: مشايخنا لم يقرؤوا ابن تيمية ولم يفهموه! أميّز دائماً في السلفية بين مرحلة الإمام أحمد بن حنبل ورد الفعل على الفكر اليوناني والغلو الاعتزالي، وبين تطور السلفية عند ابن عقيل الحنبلي وابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم، كما أميّز بين رد الفعل عند الإمام الأشعري، وبين مرحلة تطور الفكر الأشعري عند الإسفراييني والجويني والغزالي.

لا بد من الوعي بفكرة تطور المنظومات داخل الفرق الإسلامية، وهي فكرة تجعل الإنسان يبدو سلفيّاً وتقدميّاً؛ فأنا أعتبر نفسي سلفيّاً وتقدميّاً وثوريّاً ومجدِّداً في وقت واحد، وليس هناك تناقض بين هذه التسميات، لكن لا بد من ضبط من هو سلفك؟ وكيف تتعامل معه؟

• ما أهم ملامح المشروع الفكري الذي تطرحه؟

- أن نبرز حقيقة الإسلام ومعالمه: العقيدة والشريعة والمنظومة الفكرية، والإحياء الإسلامي للمجتمع، والهداية الإسلامية للإنسان، وعالمية الإسلام، وأيضاً فقه الواقع الذي نعيش فيه وإنزال هذه الأحكام الإسلامية على الواقع الذي نعيش فيه، والتصدي للحرب المعلنة على الإسلام. باختصار: ما هو إسلامنا؟ ما هو الواقع الذي نحن بحاجة إلى فقهه وإلى أسلمته؟ وما التحديات التي تواجه هذا الإسلام؟ هذه هي معالم المشروع الفكري.

• هل ترى في هذا المشروع ميلاً نحو المحافظة بعد أن كنتَ ثوريّاً، وخاصة في المرحلة الأخيرة من حياتك؟

- هذا ليس محافظة؛ فعندما أكتب عن غلاة العلمانية والمتغربين يبدو أنني محافظ، وعندما أكتب في نقد الجمود والتقليد يبدو أنني ثوري وتقدمي؛ هذا موضوع يتعلق بالمجال الذي أكتب فيه، لكن هناك معالم أساسية لا تتغير وهي: الحفاظ على رؤيتي للإسلام ومعالم الإسلام، وعملي الدؤوب لإنهاض وإخراج الأمة من عنق الزجاجة الذي وقعت فيه، ومواجهة التحديات الغربية الشرسة والحرب الصليبية المعلنة على الإسلام.

• كيف تصف لنا علاقتك بالحركة الإسلامية عامة، وبالإخوان خاصة، وقد كنتَ مرتيْن الوسيطَ بين الإخوان والشيخ يوسف القرضاوي، وقدمتَ له عرض التنظيم بأن يكون المرشدَ العام؟

- الإخوان يثقون بي ويحبونني، وأنا أعتبر التنظيم كبرى الحركات الإسلامية، خاصة في ظل حالة التشرذم في الحركة والأحزاب، فليس لدينا رصيد في الشارع إلا الإخوان. سبق أن كتبت نقداً للحركات ومنهم الإخوان؛ لأنهم ركزوا على السياسة بالمعنى الدارج، وأهملوا المشروع الإصلاحي، كما أهملوا الحديث عن الاحتلال الذي تعيشه الأمة والقواعد العسكرية التي تنتشر في كل بلاد الأمة، والأساطيل التي تنتشر في البحار والمحيطات.

أيضاً الإخوان أهملوا العدل الاجتماعي، رغم أنني حين كتبت عن حسن البنا وجدته يطالب بالإصلاح الزراعي قبل الحزب الشيوعي المصري، وكان لديه برنامج اجتماعي ثوري، وكذلك خاض الشيخ الغزالي معركته ضد الظلم الاجتماعي، وحتى سيد قطب كتب ضد الظلم الاجتماعي، ولكن كل هذا غاب. الإخوان رصيد كبير لا ينبغي أن نفرط فيه، ويجب أن نسانده.

• بعد وفاة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله؛ يبدو أنك تحولت إلى فكرة رد الشبهات والدفاع عن الإسلام، وقد استغرق هذا منك الكثير من الجهد، وقد يُفهم هذا على أنه تراجع من البناء إلى الدفاع. ما خلفية هذا التحول؟

- في آخر لقاء بيني وبين الشيخ الغزالي في منزله؛ دخل وأحضر لي آخر كتبه ‘نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم‘، وكتب لي إهداء أحسست أنه يحمّلني الأمانة، كتب لي: "إلى أخي الحبيب د. عمارة داعية الإسلام وحارس تعاليمه. محمد الغزالي"، ثم سافر بعد ذلك إلى الجنادرية (في السعودية)، فتوفي ودُفن هناك في البقيع.

ولي قصة مع الشيخ؛ فقد كنت أسمع به ولم تكن لي به صلة، وكان ثمة معركة بين المشايخ وعبد الرحمن الشرقاوي (ت 1987م) حول كتاباته اليسارية، فألقى الشيخ الغزالي محاضرة في قَطَر عن الغزو الفكري الذي يتمدد في فضائنا، وذكر من بين الأسماء الشرقاوي ومحمد عمارة، ثم حكى الشرقاوي هذا الكلام في مقال له في صحيفة ‘الأهرام‘.

صادف أن قرأت المقال وفيه اسمي، ولكنني لم أتأثر؛ لأنني كنت أحب الغزالي من بعيد، ثم بعد أن قرأ الشيخ مجموعة مقالات لي -ولم يكن قد قرأ لي شيئاً قبلها- أرسل إلي رسالة، وقال لي فيها كلاماً هزني من الأعماق. قال: قالوا لي عنك إنك تفسر الشريعة تفسيراً ماديّاً، وما كان يليق بمثلي أن يحكم على الرجال من خلال مقالات الآخرين، وإن القليل الذي قرأته لك ردني إلى الصواب في أمرك، ولقد ذهبتُ إلى الذين حدثوني عنك فقلت لهم: هذا عقاد العصر، وهذا وهذا...!

يقودنا هذا إلى الشيخ محمد متولي الشعراوي أيضاً؛ فقد كان يدرّس البلاغة في طنطا وأنا طالب، ولم تكن لديه مواهب أكثر من مدرس بلاغة، ثم شاء الله -في حقبة الستينيات عندما علا صوت الفكر المادي- أن يظهر الشعراوي فجأة في مواجهة هذا.

التقيت به في 1992 عندما أقمنا لجنة لعمل صلح بين وزارة الداخلية وجماعات العنف، وتوثقت العلاقة بيننا فكان يعلق عليّ آمالا كبيرة، وفي آخر لقاء بيني وبينه يوم وفاة الشيخ جاد الحق (ت 1996م)، كان الناس يستقبلون المعزين وكان هو يجلس على كرسي، فحين دخلت انتفض واقفاً وعانقني وقبلني ثم رفع يديه إلى السماء وقال: "ربنا يجعل فيك العوض، ربنا يجعل فيك العوض"! أحسست أن جبلاً وُضع على أكتافي!