العدد 1421 / 15-7-2020
فريدة إبراهيم

في حوار بين المقاوم الشرس للاستعمار الفرنسي، الأمير عبد القادر، والقس ديبوش، في رواية "كتاب الأمير" لواسيني الأعرج، يقول القس إن التاريخ يكتبه المنتصرون، فيردّ عليه الأمير: لكن من يضمن أن المنتصر في التاريخ هو المنتصر دوما، للتاريخ مقالبه. .. ومن مقالب التاريخ أن تاريخ احتلال فرنسا للجزائر هو 5 تموز 1830، وتاريخ استقلال الجزائر في 5 تموز 1962. هكذا يعبث التاريخ بالمنتصر، فيمنح للمهزوم راية القيادة، ليعيد ساعة النصر إلى نصابها. ولا يمكن لصاحب حقّ أن يظل مهزوما، وإن طال أمد الاستعمار.

ليس 5 يوليو من كل عام كباقي الأيام بالنسبة للجزائريين. استرد الشعب كرامته وحريته في مثل هذا اليوم، بعد أن سطّر واحدةً من أعظم الثورات ضد المستعمر الفرنسي الذي احتل الأرض ونهب خيراتها وشرّد أهلها، فقد التحم الإنسان البسيط مع الثوري المسلح من أجل تحرير الوطن، وكان الذاهب إلى الجبل كمن يقصد مكّة للحج، هكذا يصف مالك حداد في رواية "الانطباع الأخير" المناضل الذي يلتحق بصفوف الثورة.

جاء احتفال الجزائر هذا العام بالذكرى الثامنة والخمسين للاستقلال بطعم آخر للنصر، إذ تحتفل بعيد استقلالها، وأيضا بفرحة استرداد كرامة الشهداء المقاومين الأوائل الذين ظلت جماجمهم حبيسة متحف فرنسا ما يزيد عن 170 سنة.

تُصرّح الدفاتر التاريخية لثورة التحرير الجزائرية باستشهاد مليون ونصف المليون من الشهداء، ولكن الحقيقة تتجاوز ذلك العدد، إذ تصل إلى نحو خمسة ملايين، على امتداد تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر منذ العام 1830 إلى الاستقلال. فقبل إعلان الثورة في عام 1954، قامت ثورات شعبية عديدة تصدّت للاستعمار، مثل مقاومة الأمير عبد القادر ومقاومة الزعاطشة، وكان رد فرنسا عليها الاعتقال والقتل والتنكيل والإبادة الجماعية بحرق القرى والجثث، مخالفةً بذلك كل الشرائع والقوانين، فالدول ترتكب الجرائم أيضا، وجرائمها، كما جاء في كتاب جاك فرجيس "جرائم الدولة"، هي مخالفة الدولة نفسها القانون، بنسيان مبادئها وتعطيل شرعيتها الخاصة.

استطاعت فرنسا أن تقضي على المقاومة الشعبية التي كانت الصوت الأول الصادح لرفض الاستعمار بكل أشكاله، واستتب لها الوضع، لكن الثمن كان باهظا وبشعا، لا يتوافق مع مبادئ دولةٍ تدّعي الحضارة والتمدّن. ولكن ما معنى الحضارة والتمدّن في عرف الدول الأوروبية الكبرى التي اقتسمت فيما بينها قارّة أفريقيا، وحوّلتها إلى حدائق خلفية، تعيث فيها نهبا وإبادة؟

يذكر الناقد البريطاني تيري إيجلتون، أن الحضارة، من حيث هي فكرة، تساوي إلى حد بعيد، بين السلوك الحميد والأخلاق. فأن يكون المرء متحضّرا يعني، من بين أمور أخرى، ألا يبصق على السجادة، وألا يقطع رأس أسير في حرب. ولكن فرنسا فعلت ذلك، قد لا تكون بصقت على سجّادها المزركش، لكنها قطّعت رؤوس المقاومين الجزائريين، واحتفظت بها في متاحفها، فرجةً مسلية لإبهار عامة الناس بمنجزات الإنسان المتحضر. وللمفارقة، فإن اسم المتحف الذي حُفظت فيه جماجم معارضين لاحتلالها هو "متحف الإنسان"، فهل للإنسان معنى عند دول الغرب المستعمِرة؟

يرى الكاتب الألماني هنريتش فون تريتشك، أن القانون الدولي يصبح مجرّد تعابير رنانة إذا أريد تطبيقه على الشعوب البربرية المتوحشة، فمن أجل معاقبة قبيلة زنجية لا بد من حرق قراها. ولا يمكن هنا أن نطبق القانون الدولي، لأن ذلك لن يُعدّ عملا إنسانيا أو تحقيقا للعدالة، إنما هو الضعف المعيب، لأن الجنس البشري، في عرف هؤلاء، ليس واحدا، إنهم "متوحشون وقريبون من التمدّن ومتمدنون"، حسب تمييز أحدهم. وبغض النظر عن مدى استناد فرنسا إلى هذه النظريات في شرعنة إبادتها الجزائريين، فإن الذي حدث تنفيذ حرفي لهذه النظريات العنصرية المقيتة في حق البشرية، فبأي قانونٍ تُقطّع رؤوس المعارضين، ويُحتفظ بها في المتاحف؟ ببساطة، إنه الوجه البغيض للتحضّر والتمدّن. ولا بد هنا من أن نهمس في آذان دعاته ونقول إن المقاومة تعني، في أحد معانيها، قمة الثقافة والتمدّن، إنها رفض العبودية وسعي إلى انتزاع الحرية من أجل العيش الكريم.

عادت جماجم شهداء الجزائر ودفنت في ذكرى الاستقلال، وصار لزاما أن نقرّ مع الروائي الجزائري، الطاهر وطار، صاحب "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، بأن الشهداء عادوا هذا الأسبوع، ولكن ليس إلى الحياة، بل إلى حضن وطنهم الذي ضحّوا من أجله، وإن كانت عودتهم على شكل جماجم، إلا أن رمزية الحدث تعد انتصارا آخر للإنسان الساعي إلى التحرّر، وإدانة صريحة وعلى الملأ لمدّعي التحضر وحقوق الإنسان التي يبرز، في كل مرة، زيفها، حين تتعارض مع مصالح الدول العظمى. وبذلك، تبقى إنسانية الغرب معلقةً على رفوف المتاحف وفي الأقبية، حيث تنام جماجم أخرى، تنتظر عودتها إلى أوطانها.