العدد 1395 / 15-1-2020

بقلم : معين الطاهر

مبرَّرٌ ومفهومٌ هذا الانقسام الكبير حول مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، فهو لم يكن رجلًا عاديًا، ومن خلال قيادته فيلق القدس، الذراع العسكري لتنفيذ السياسة الإيرانية في الإقليم بأسره، كانت بصماته واضحةً في أحداثٍ عصفت بسورية والعراق ولبنان واليمن وفلسطين وغيرها.

يأخذ عليه خصومه أنه دعم نظام بشار الأسد، وساهم بشكل فاعل في الحرب السورية التي أدّت إلى مقتل وجرح مئات الآلاف، وهجرة وتشريد ملايين السوريين وعشرات الآلاف من الفلسطينيين اللاجئين إليها. كما يشيرون إلى أن التوافق المضمر، خلال الأعوام الماضية، بين السياستين الأميركية والإيرانية في العراق بعد الاحتلال الأميركي، ساهم في تعميق الخلافات المذهبية والطائفية، قبل أن يظهر الخلاف بينهما لاحقًا. أما أنصاره فيصفونه بـ"قائد محور المقاومة والممانعة"، ويشيدون بدوره في تصفية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفي مدّ المقاومة الفلسطينية في غزة (حركتا حماس والجهاد الإسلامي) بالأسلحة والصواريخ والأموال.

في تعليقات المناهضين للسياسة الإيرانية، وخصوصًا من أبناء سورية والعراق، وبعض الفلسطينيين الذين أجبرتهم الحرب الدامية على الهجرة والنزوح، والمتعاطفين معهم، تشعر بالمرارة المختزنة التي تصاحبها شماتةٌ تمادى بها أصحابها بمقتل سليماني، فاعتبروا يوم مقتله يوم فرح وسعادة، وكأن الولايات المتحدة قد اغتالت سليماني ثأرًا لهؤلاء وانتقامًا لمعاناتهم.

وفي المقابل، تطرّف جماعة المقاومة والممانعة وأنصارهم في الرد، فاعتبروا الآخرين عملاء للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، ودارت حربٌ كلامية ضروسٌ انجرّ إليها من ليس له أدنى مصلحة في هذا الخلاف، مثل بعض الفصائل والاتجاهات الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، فأُقيمت مجالس للعزاء، وصدرت بياناتٌ تنعى سليماني، وتصفه تارة بـ "المجاهد الأكبر"، وتارة بـ "جيفارا فلسطين"، أيّدها بعضهم، وعارضها بشدة آخرون، بما في ذلك من هم داخل الاتجاه أو الفصيل الواحد.

أما حركة حماس، فقد عارض بعض كوادرها وشيوخها، بيانها الذي نعت فيه سليماني. وأصدر بعضهم بياناتٍ أشبه بالفتاوى الطويلة، معتبرةً ما حدث ليس إلا إرادة الله التي تضرب الظالمين بالظالمين، وعندما يُشار إلى أن أميركا عدوة الشعوب هي الفاعل، تتكرّر الإجابة بالمثل الشعبي "فخّار يكسّر بعضه". وهو ما دفع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، إلى إصدار بيان يطلب فيه وقف الإدلاء بأي تصريحاتٍ حول اغتيال قاسم سليماني، بعد أن رأى اختلاط الحابل بالنابل، وذلك قبل ترؤسه وفدا إلى طهران للتعزية بالرجل الذي وصفه هناك بأنه "شهيد القدس".

تجاوز ما حدث حالة الانقسام السياسي في منطقتنا حول موجات الربيع العربي وفلسطين والحرية والقمع والاستبداد والفساد، ومناهضة الإمبريالية الأميركية والصهيونية، ونبذ الطائفية والمذهبية. ومن يشاهد البيانات والتعليقات ونشرات الأخبار، يوقن أننا في حالة فصام عقلي، لا في حالة انقسام سياسي، فحال بعضهم يماثل حال مجلس الشيوخ في بيزنطة ومحمد الفاتح يقف على أسوارها، وهم مشغولون بجنس الملائكة وحجم إبليس، وما إذا كان بمقدوره النفاذ من خرم إبرة.

علينا أن نعترف جميعًا، سواء من كان فرحًا بالعملية الأميركية بسبب اعتراضه على السياسة الإيرانية في الإقليم، في الوقت الذي يناوئ فيه السياسة الأميركية، أم من اعتبر سليماني "سيد شهداء المقاومة"، بأن ما حدث هو أمر جلل، سيكون له ما بعده على مستقبل المنطقة بأسرها، فقاسم سليماني، بتقدير الخبراء، هو ثالث أهم شخصية في إيران، وهو عنوان مشروعها الإقليمي. وهو ما يستدعي من الجميع التنبه إلى ما سيأتي، وإعادة تقدير الموقف وتحديد الأوليات، في ظل التهديدات المتوالية من إيران والولايات المتحدة.

الهدف الأميركي من الحرب واضح؛ تحقيق إنجاز يضرب مشروع إيران الإقليمي، وترسيخ سيطرة الولايات المتحدة على المنطقة ومقدّراتها، وتهذيب السلوك الإيراني تجاهها، بما ذلك إنهاء الملف النووي الإيراني، وهي أهداف فشلت العقوبات الاقتصادية، على الرغم من ضراوتها، في تحقيقها، فلجأت واشنطن إلى التصعيد العسكري أخيرا، وهي تعلم أنها بذلك ستدخل في مواجهة مباشرة.

في هذا المناخ الذي يتبارى كل طرفٍ في سرد قوائم أهدافه، فإن احتمالات نجاح الوساطة بينهما تبدو ضعيفة، إذ لا تستطيع ايران التراجع عن التصعيد إلا برفع العقوبات عنها، عندها يصبح ثمن اغتيال سليماني مجزيًا. وترامب ما عاد يستطيع التراجع، بعد أن أشعل الفتيل في وسط حقول النفط. ما يحاول فعله الطرفان هو التلويح بالحرب والتهديد بها، على أمل أن يرضخ الطرف الآخر قبل اشتعال أوارها. ولكن القيود المفروضة على إيران أقل بكثير من المفروضة على الإدارة الأميركية، فقد سبق لإيران أن أسقطت طائرة أميركية، وضربت ناقلات نفط، وقصفت بالصواريخ وبالطائرات المسيرة، مباشرة منها أو بالوكالة عبر أنصارها، مواقع مهمة، مثل "أرامكو" لتظهر أنها قادرة على الوصول إلى مزيدٍ منها. في حين أن رحلة الرئيس الأميركي، ترامب، باتجاه الحرب لن تكون سهلة، فثمّة معارضة، وقيود بدأ الكونغرس في وضعها أمامه، وإذا أصرّ على المضي قدمًا، فسيذهب إلى حربٍ انقسمت عليها الولايات المتحدة قبل أن تبدأ فيها، وهذا سيزيد من حجم القيود التي ستُفرض عليه في استخدام فائض القوة، أو حتى التلويح بها، وهي السلاح القوي في يده المشلولة عن استخدامه بقيود داخلية ودولية.

من غير الجائز، ومنطقتنا تواجه استحقاقاتٍ كبرى تؤثر على مستقبلها كله، أن يتم الاكتفاء برؤية المتصارعين، و"ضرب الظالمين بالظالمين"، ومشاهد الفخار وهو يكسّر بعضه، فالفأس في رأسنا نحن، إن نشبت حروبٌ ومعارك، أو تم التوصل إلى تسوياتٍ قبلها أو خلالها أو بعدها. إنهاء الانقسام والانفصام الحالي، في مواجهة أولويات راهنة، يحتاج، أول ما يحتاج، إلى شجاعة لإجراء مراجعات ضرورية من كل الأطراف، لكل ما مضى من سياساتٍ ساهمت في تمزيق الأمة وإضعافها، ودعمت الاستبداد، وقمعت الحريات، وتستّرت وراء الطوائف والمذاهب. وهو شرط ضروري ولازم لخوض معركة طويلة تُعرف فيها مواقع الأقدام.