العدد 1426 / 2-9-2020

الكتابة عن سيد قطب تحتاج إلى قراءة موسوعية وقدرة على استيعاب تلك الانعطافات في مسيرته والبحث عن الشيء المفقود الذي ظل يسعى وراءه، غير أن أكثر ما يبدو بارزا وواضحا في رحلة الرجل رغم كل التعقيدات هو إخلاصه للفكرة – أيا كانت- حتى الموت.

ومن بين مصاعب الكتابة عن قطب هي تحديد لقب يجمع مسار رحلته الطويلة، فهو الروائي والقاص والشاعر والناقد الأدبي، وهو الثائر والمفكر، وهو عضو جماعة الإخوان المسلمين ورائد الفكر الحركي الإسلامي فضلا عن كونه شهيد الفكرة.

ما بين الانبهار من جانب معجبيه والنقد والكراهية من قبل معارضيه، يظل قطب بعد 54 عاما من مقتله -أعدم في 29 أغسطس 1966- رمزا ربما للحقيقة من وجه نظر مؤيديه أو الإرهاب وفق خصومه ومعارضيه، غير أن الأنظمة رفعت راية العداء له بقتله ثم محاولة إعدام أفكاره، فمُنعت كتبه وسخرت الأقلام لمهاجمتها وقُدمت للدراما في شكل البارود الذي يستهدف تفجير المجتمع.

أفكار متلاطمة

في التاسع من تشرين الأول عام 1906، ولد سيد قطب في قرية موشى بمحافظة أسيوط، وخلال سنوات الطفولة حفظ القرآن الكريم بالتوازي مع تلقي تعليمه الأولي، ثم سافر إلى القاهرة ليكمل تعليمه ويتحصل على شهادة البكالوريوس في كلية دار العلوم.

إلى هنا تبدو الأمور عادية، شاب عادي يأتي من أقصي الصعيد ليدرس في العاصمة، ولا شيء يدل على أن أمواجا من الأفكار المتلاطمة تتحضر في ذهنه كي تصل إلى الشاطئ وتتولد أخرى.

وفي خضم رحلة التقلبات الفكرية سافر قطب إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1948 لدراسة التربية وأصول المناهج، وتتحدث مراجع تاريخية عن أن تلك المنحة الدراسية كانت بناء على رغبة ملكية وقتئذ للتخلص من قلمه الذي لم ينفك عن الكتابات المعارضة.

تلك الرحلة التي لم تستغرق سوى عامين مدت المفكر والأديب بأفكار جديدة وهو أمر اعتاد عليه، فالتغير هو دأبه وطريقه للوصول إلى الحقيقة.

عاد الرجل من بعثته محملا بكثير من الحنق على الغرب بشكل عام وعلى أميركا بشكل خاص التي رآها ترفع راية العلم في حين أنها لا تمتلك الروح التي هي أساس الحياة، وهنا يصعب حصر المسببات الحسية والمادية التي أوصلته لتلك الرؤية التي ستقوده بعد ذلك إلى التوجه الإسلامي.

الوجهة الأخيرة

لم يكن قطب وصل بعد إلى شاطئ استقراره الفكري عندما أزاحت حركة الضباط لأحرار الملك فاروق عن السلطة واستولت هي عليها فيما عرف بثورة 23 يوليو/تموز 1952.

تحمس للحركة الجديدة وصار مدافعا عن قراراتها التي بدت تُمهد لطريق طويل من الدكتاتورية، فمثلا كرس مقالات عدة للهجوم على المظاهرات العمالية مؤيدا عقاب الثائرين، وهو ما حدث بالفعل بإعدام اثنين منهم.

لكن سرعان ما رأى أن تأييده للثورة كان خطأ كبيرا وأنه مجرد موجة من موجات تقلباته الفكرية ليجد الملاذ نهاية المطاف في جماعة الإخوان المسلمين التي ستنتهي عندها أمواجه المتلاطمة.

تولى رئاسة تحرير جريدة الإخوان المسلمين، وأصبح مسؤولا دعويا للتنظيم، وبالتوازي صار أبرز المهاجمين لحركة يوليو، فاعتقل مطلع عام 1954 لمدة ٣ أشهر، ثم وقعت أحداث المنشية، وألقي القبض عليه بتهمة التخطيط لاغتيال عبد الناصر، في تشرين الأول من العام نفسه، وحكم عليه بالسجن 15 عاما.

وبعدما أُفرج عنه بعفو صحي عام 1964 بوساطة الرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف، أعيد اعتقاله في 1965، وصدر حكم بإعدامه بتهمة التخطيط لاغتيال الرئيس وتم تنفيذ الحكم في 29 آب 1966.

ولم يكن غريبا أن يرفض قطب، الذي ظل طيلة رحلته مخلصا للسعي وراء الحقيقة، عرض العفو عنه مقابل التراجع عن أفكاره، ومضى إلى طريق المشنقة قائلا جملته الشهيرة "لن أعتذر عن العمل مع الله".

ومع تلك الرحلة الزاخرة بالقفزات الواسعة بين التيارات المتنافرة قدم قطب إرثا ثقافيا تمثل في 26 كتابا، فألف الرواية والقصيدة والقصة، وعندما امتد الخيط إلى الكتابات الإسلامية كانت واضحة الأسلوب لا تخلو من رقة الأديب. وكانت النتيجة المباشرة لتنوع الأفكار وتباينها لدى قطب هي تنوع إنتاجه الثقافي، فالرجل الذي كتب الرواية الرومانسية "أشواك" هو نفسه الذي قدم "معالم في الطريق"، ومن أبدع ديوان "الشاطئ المجهول" كتب "في ظلال القرآن"، ومن طرح "العدالة الاجتماعية في الاسلام" هو من كتب قصة "المدينة المسحورة "وغيرها من قصص الأطفال.

إزعاج الطغاة

مات قطب قبل 54 عاما لكنه ما زال حاضرا بإرثه الفكري يزعج الأنظمة الطاغية، فتحاول تشويه شخصه وحجب إنتاجه بأية طريقة عن الأجيال التي لم تشهد رحلته.

وهنا يكون السؤال واجبا عن السبب الذي يجعل من قطب رمزا مضادا للطغاة، وعن اجتهاد الأنظمة الاستبدادية في طمس أفكار الرجل بهمة تفوق أي اجتهاد منها لمحاربة معارضيها التاريخيين، بمن فيهم حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.

أجاب على هذا التساؤل الأكاديمي وأستاذ الشريعة، الدكتور وصفي عاشور، في مقال له بعنوان "سيد قطب.. لماذا يزعج الأنظمة الطاغية؟" وطرح عدة أسباب لذلك تتلخص وفق رؤية عاشور في عدم خضوع قطب لطاغية عصره حتى قدم روحه رخيصة في سبيل الله، وما يحمل من إيمان وعمل وجهاد، وهذا يمثل نموذجا بطوليا يغيظ أنظمة الاستبداد، فتسعى لتشويهه حتى لا يتمدد أنموذجه وينشأ في الأجيال ما يشبهه. كذلك فكتابات قطب لاقت انتشارا واسعا في العالم لما لها من مذاق خاص، فعباراته متكاملة أدبا وروحا وفكرا ونفسا ووجدانا. ومن أهم الأسباب التي جعلت من الفكر القطبي خطرا على الطاغية، وفق أستاذ الشريعة الإسلامية، هي تمركز المقاومة عنده حول فكرة المواجهة الجماعية بتنظيم عضوي حركي، مما يشكل خطرا حقيقيا على المستبدين.

وما ضاعف من مسببات التأثير العميق لقطب مشهد استشهاده الذي خلع على أفكاره وإخلاصه لها ثوبا من المصداقية.

وإلى حد قريب تماست الدراسة التي أعدها المعهد المصري للدراسات مع وجهة نظر عاشور فيما يخص تفرد قطب وخطره.

وذكرت الدراسة التي حملت عنوان "الدولة بين منظري الإخوان المسلمين" أن قطب ذو نزعة ثورية صفرية، وهذه الرؤية الراديكالية ميزت إستراتيجيته للتغيير.

وأضافت أن الوعظ والدعوة في نظر قطب لا يكفيان، لذلك دعا لتكوين طليعة إيمانية جاهزة لجهاد النظم الجاهلية الحديثة، وهو ما يخالف آراء حسن البنا المهادنة في هذا الصدد.

وفي ذلك يرى قطب أن الجهاد هو الوسيلة الأساسية للتخلص من المعوقات التي تحول دون تأسيس الدولة الإسلامية وتحرير الإنسان من أي سلطة غير سلطة الله.