العدد 1338 / 21-11-2018

تحل ذكرى المولد النبوي الشريف في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، وهي مناسبة عطرة عزيزة على القلوب، هي ذكرى مولد سيد الكائنات، نبيّ الأمة والرحمة المهداة؛ كيف لا وهو سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء والمرسلين ..

كيف لا وهو المنّة العظمى من الله جلّ وعلا ، والنعمة الكبرى، الذي أرسله الله عز وجل هدى ورحمة وبشرى للناس أجمعين , وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ .. كيف لا وهو الذي حظيت أمته صلى الله عليه وسلم بالتكريم وعلو القدر والمكانة والشأن فوق باقي الأمم كُنْتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ للنْاسِ .. وما كان ذلك ممكنا إلاّ بهِ صلى الله عليه وسلم؛ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلىْ المُؤْمِنيْنَ إذْ بَعَثَ فِيِهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلوُ عَلَيْهِمْ آيْاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ .. كيف لا وهو الذي جعله الله أمنا وأمانا لأمته من العذاب: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ..كيف لا وهو الذي استنار الوجود بمولده وطلعته، وأشرقت الأرض بنور ولادته، وتجاوبت مع الحدث العظيم الأكوان والسماوات والأرض وجعل مولده نورا وبركة اهتز له عرش كسرى وانطفأت به نار فارس بعد أن ظلت مشتعلة ألف عام؟

وهو الذي كَرّمهَ الباري عزّ وَجَلّ فجعله سيّد ولد آدم ولا فخر، وأي تكريم أعظم من أن يربط الله بين محبته جل علاه وبين وجوب إتّباع نبيه ورسوله بقوله: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبّوُنَ اللهَ فاتبعوني يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ .

أي تشريف أجل من أن يجعل الخالق سبحانه طاعة رسوله من طاعته عز وجل: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَسُوُلَ فَقَدْ أَطاعَ اَللهْ

أي إكرام أعظم من أن يربط كمال الإيمان بتمام محبة الرسول العظيم: ﴿"لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتّىّ أكوُنَ أحَبُّ إليْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدهِ وَالناسِ أَجْمَعيْن”

أي تقدير أجلّ من أن يجعل الله الشهادة بنبوّته ركنا من أركان الإسلام، وأن يختّصه بمعجزة الإسراء والمعراج، وأن يصلي عليه ويجعل الملائكة دائمة الصلاة عليه إلى يوم الدين ﴿إنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ يُصَلّوُنَ عَلىْ النَبِيّ .

صحيح آن الذكرى لا تكون إلا للغافلين، لأن المؤمن مستحضر منة الله وفضل الله عليه آناء الليل وأطراف النهار، فهو يتقلب بين نعم الله الموهوبة من واحدة لأخرى. فمن ناشئة الليل إلى سبح النهار، من ذكر الجنان إلى ذكر اللسان إلى ذكر الجوارح والأركان، مستحضرا سبب هذه النعم الذي هو رسول رب العالمين، مستحضرا صبره وتحمله، وحلمه و رحمته، وحرصه على أمته، وتألمه على غفلتهم،

إنه رسول منهجه التيسير والتبشير، يكره عنتنا ومشقتنا ويتجنب ما يصعب علينا. لا يلقي بنا في المهالك، ولا يدفع بنا إلى المهاوي. فإذا كان حريصا علينا بالطاعة والعبادة و الجهاد، وركوب الصعاب، فما ذلك من هوان بنا عليه، ولا بقسوة في قلبه وغلظة، إنما هي الرحمة في صورة من صورها. الرحمة بنا من ذل الغفلة والبعد عن الله والهوان بالركون للنفس وإتباع الشهوات، والرحمة بنا من الذنب والخطيئة، والحرص علينا أن يكون لنا شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله، والجنة التي وعد المتقون. ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ

كان ميلاد الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وهو يوم سعادة دائمة للإنس والجن بل لكل كائنات الوجود، لذا كان صلى الله عليه وسلم يحبّ يوم الاثنين ويخصه بأعمال وعبادات. فقد روى مسلم في صحيحه في كتاب الصيام عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: سُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل صوم يوم الاثنين، فقال: "هذا يومٌ وُلدتُ فيه وأُنزلَ عَليَّ فيه”، وأخرج الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين واستنبئ يوم الاثنين وخرج مهاجرا يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين”.

إن مولد سيد الوجود عليه أزكى الصلاة والسلام لا ينبغي اعتباره مجرد مناسبة لمولد إنسان عبقري عظيم، بلغ الرسالة ثم انتهت مهمته وانصرف، بل المطلوب أن نجعلها بشرى نعيشها ونحياها، ونتنفس معانيها وأسرارها بل نحيى ونعيش مع الحبيب، ألسنا نسلم عليه مباشرة في التشهد قائلين السلام عليك أيها النبي ورحمة الله؟ أليست روحه ترد إليه حتى يرد السلام على من يسلم عليه؟ بهذه المعاني نربط ذكرى مولده بميلاد ومصير أمة الإسلام التي أوكل إليها قيادة العالم ونشر الفضيلة والعدل والسلام، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الخالق الديان، ومحاربة الظلم والطغيان.

إن ذكرى المولد النبوي الشريف هي مناسبة وفرصة لكل مؤمن يتذكر فيها حاله مع الله عز وجل وموقعه وموقع أمة نبيه الكريم، فيكشف عن ساعد الجد مشمرا ومتحليا بصفات الحرص على الخير لخلق الله واعتماد التيسير، والتخلق بخلق الرحمة، مستحضرا جسامة المسؤولية وتبعات التشريف والتكليف من خلال قول الله عز وجل:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .